قطوف من الكتب

الشيخ الرئيس والتعليم الديني

الرئيس تاج الدين الحسني وصنعة المشيخة

كان الشيخ تاج الدين الحسني أحد رؤساء سورية الذين وصلوا إلى الرئاسة بالتعيين المباشر من الفرنسيين عام 1941. وكان قبل ذلك قد كُلّف برئاسة الحكومة أكثر من مرة بالتعيين أيضاً.

ينتمي الشيخ الحسني إلى طبقة السياسيين المحسوبين على الفرنسيين كحقي العظم وصبحي بركات ومحمد علي العابد وطاهر الأتاسي. ويقابلهم من كانوا يسمّون “بالوطنيين”، ويقصد بهم من اختار “النضال” السياسي السلمي ونبذ العمل المسلّح ضد المحتل، كرجال الكتلة الوطنية. والحقيقة أن في الفريقين من عمل لمصلحة بلده، ومن عمل لمصالحه ومصالح دولة الانتداب.

والشيخ تاج الدين ينتمي أيضاً إلى بيئة دينية مشيخية، فوالده هو الشيخ بدر الدين الحسني العالم ذائع الصيت والذي درس في حلقته عشرات المشايخ. والشيخ تاج نفسه درَس على والده، وعمل في التدريس الديني بدمشق.

يروي العلّامة محمد كرد علي في مذكراته – وقد عمل وزيراً للمعارف في حكومات الشيخ تاج الدين- بعض المواقف التي تعطي فكرة عن نظرة الحاكم لوظيفة المشايخ ودورهم في المجتمع، وعن جو العمل في هذه البيئة التي لا تخلو من فساد ومحسوبيات.

يقول الأستاذ كرد علي:

قلت للشيخ تاج الدين إن الوعّاظ قد جرى تصنيف درجاتهم، ونالوا رواتب ما كانوا يحلمون بها. ودفعت لهم الحكومة المتأخرات من المشاهرات، فمن الواجب أن يعلموا الأهلين دينهم، وما ينفعهم في دنياهم. ومن أخذ الأجرة طولب بالعمل. وزيّنتُ له أن يأمرهم بالتدريس لشدة الحاجة إلى ذلك. وضربت له مثلاً بسكان الشاغور أحد أحياء دمشق. وقلت له إن عددهم لا يقل عن ستة عشر ألفاً، وقلّما تجد بينهم من يعرف الحلال والحرام، ولا يحسنون التطهر ولا التعامل، ولا إقامة الشعائر على الأصول. فإذا كان من سكان الحاضرة من هم على هذه الشاكلة فما بالك بالقرى البعيدة. فقال: سأذكر ذلك للمفتي.

وبعد أيام عدتُ فسألته هل أوعز إلى المفتي ليشرع الوعاظ بالتدريس. فأجاب: إن المفتي يحاذر أن يشغبوا عليه، فلا يجرؤ أن يدعوهم إلى ما تريد. فقلت: إن المفتي إذا أمرته يأتمر حالاً بأمرك، وجماعة الوعاظ مرتبطون بمقامك مباشرة، فأنت تدعوهم إلى واجبهم فيطيعونك. فقال: وأنت ماذا تنتظر من هؤلاء المشايخ؟ فقلت: لأنّا بتعليم العوام دينهم تقتصد الحكومة من السجون ومن الشرطة والدرك، وتجود الصحة وتخف الأمراض، ويقل الشغب وترتاح السكان. فقال: دعك من هذا. وهل يعلمونهم غير الخرافات؟ فقلت له: وهل دين الإسلام خرافات؟

إذا عُرف السبب:

وقصصت ما وقع لي مع الرئيس بعد حين على أكبر علماء البلدة فقال: كان عند الشيخ جواب سؤالك، لكنه تعمّد ألا يجيبك. ذلك لأن الخمسة والأربعين واعظاً الذين أخذوا كما قلت رواتب جيدة، ما كان العلماء يقبضون مثلها، لا يقتدر على التدريس منهم سوى سبعة، والباقون من العوام، لا يحسنون التدريس ولا الوعظ. وهم المصفقون له ولأبيه. فقلت له: كنت أحب وقد دخلت الدسائس في السياسات أن يكون الدين عنها بمعزل. وبقي هؤلاء المدرسون الجهلة إلى اليوم يقبضون الرواتب فقط.

واقترحت على الشيخ أن تدرّس العلوم الإسلامية في المدرسة السميساطية، وكانت خراباً فعمرت. وذلك بأن يُختار لها بواسطة وزارة المعارف في مصر عالم مصري، يديرها ويتولى تدريس بعض الفروع التي يؤثرها، وينتخب لمعاونته في التدريس من يشاء من أساتذة السوريين. ومما ذكرت أن هذه المدرسة إذا خرّجت كل سنة عشرة من الطلبة يتولون المناصب الدينية، لا تمضي أعوام حتى يكثر الكُفاة من أهل هذا السلك، فيصبح علم الطالب بعد ذلك شرطاً أساسياً في تقلّد الوظائف الدينية. وأكّدت له أنه إذا تم هذا، وجُعل أحد رجال المعارف عضواً دائماً في مجلس المدرسة، والمعارف لا تخلو في كل زمان من علماء، يعود هذا عليه بسمعة طيبة، خصوصاً وأبوه شيخ وجده شيخ وهو شيخ، وسلسلتهم في المشيخة كالحلقة المفرغة، لا يعلم أين طرفاها.

وقد ذكرت للرئيس أن هذا المشروع لا يحتاج أول الأمر إلى أكثر من عشرة آلاف ليرة سورية تؤخذ من أموال الأوقاف. فقال: إن مدير الأوقاف لا يرضى بإعطاء هذا المبلغ الضخم. فقلت له: إن مدير الأوقاف قريبك وصنيعتك، ولا يتأخر عن إعطائك ما تأمر به من مال الوقف الذي لم يقفه المسلمون إلا على إقامة الشعائر وتعليم الدين. والغالب أنه لم يرَ من مصلحته أن يتعلم أحد التعليم الديني. ويفضّل أن يكونوا من الجهلة ليسوقهم إلى إنفاذ أغراضه.

مذكرات محمد كرد علي – الجزء الثاني – ص 332

زر الذهاب إلى الأعلى