قطوف من الكتب

أسباب النفوذ القوي للضباط العلويين

تحليل مفصل عن أسباب النفوذ القوي للضباط العلويين في المؤسسة العسكرية في سورية. يعرضها الدكتور حنا بطاطو في كتابه المهم (فلاحو سورية).

أسباب النفوذ القوي للضباط العلويين

ما الذي جعل هيمنة الضباط العلويين السياسية ممكنة في النصف الثاني من الستينيات والعقود التالية. في حين لم يكن عدد أبناء طائفتهم يتخطى ثمن عدد سكان سورية؟

إذا وضعنا جانباً عاملين تفسیريين عامين – تجزئة البنى الاجتماعية وعدم الفاعلية السياسية للكتلة العظمى من السوريين – فإن السؤال يحل نفسه في سؤال يتعلق بتحديد ما الذي جعل السيطرة الحاسمة للعسكريين العلويين على القوات المسلحة السورية ممكنة.

لا بدّ أولاً من القول بوضوح إن العلويين على مستوى سلك الضباط، وعلى عكس الانطباع واسع الانتشار، لم يكونوا مهمين عدداً بمثل أهمية السنّة قبل عام 1963. واستمدوا كثيراً من قوتهم الحقيقية من صفوف الجيش الدنيا.
وبالمعنى الحسابي، كان عددهم كبيراً بين الجنود العاديين. وكانوا موجودين بوفرة واضحة بين ضباط الصف. ومنذ وقت يعود إلى عام 1955، بعد اغتيال العقيد عدنان المالكي، نائب رئيس الأركان، على يد الرقيب العلوي یونس عبد الرحيم تفاجأ العقيد عبد الحميد السراج، رئيس مكتب المخابرات العسكرية، باکتشافه أن ما لا يقل عن 55 في المئة أو نحوه من ضباط الصف كانوا من الطائفة العلوية.

إن العلويين على مستوى سلك الضبّاط، وعلى عكس الانطباع واسع الانتشار، لم يكونوا مهمين عدداً بمثل أهمية السنّة قبل عام 1963، واستمدوا كثيراً من قوتهم الحقيقية من صفوف الجيش الدنيا.

كيف يستطيع المرء أن يفسر هذا الوضع؟

من العوامل التي كثيراً ما تقدَّم في هذا الخصوص السياسة الموجهة نحو الأقليات التي اتبعها الفرنسيون بين عامي 1921 و 1945.
ومن الصحيح بالفعل أنه من بين كتائب المشاة الثماني في القوات الخاصة العاملة في سورية تحت الانتداب الفرنسي، تألفت ثلاث كتائب بالكامل أو في الأساس من العلويين. ولم يدخل في تركيبها أي عربي سنّي.

ومن الصحيح أيضاً أن من بين سرايا الخيالة الاثنتي عشرة التي تتوافر عنها البيانات، تألفت واحدة فقط، هي السرية 24، من عرب سنّة ريفيين من دير الزور والرقة. وضمت اثنتان، هما السريّتان 21 و 25، بعض العناصر العربية السنية من قبيلة شمر أو من مدينتي إدلب وحمص. وجميع الوحدات الأخرى كانت من الدروز أو الشركس أو الأكراد أو الآشوريين أو الأرمن أو الإسماعيلية.

غير أن طبيعة الجيش قبل الاستقلال، أي طبيعته قبل عام 1946، لا يمكن أن تفسر ترکيبته في عام 1963 أو بعد ذلك، على الأقل بالمعنى الحاسم. ويجب أن يكون السبب واضحاً. ففي عام 1963، كان في سورية قوات مسلحة دائمة يصل عددها إلى نحو 65 ألفاً. وكانت تقديرات عدد رجالها الذين تحت السلاح في عامي 1973 و 1986 على التوالي 149 ألفاً و 400 ألف. وفي حين كان تعداد الفرقة السورية في القوات الخاصة الموروثة عن الفرنسيين في عام 1946 هو 7 آلاف فقط، فإنه تقلص في عام 1948 إلى 2500 رجل فقط.  لأن العائلات التجارية ومالكة الأراضي الحاكمة في حينه كانت تنظر إلى تلك الفرقة على أنها كبيرة جدا ومكلفة جداً. ومن المؤكد لا يمكن لموطئ القدم القوي للعلويين في القوات الخاصة أن يفسر نفوذهم المهيمن في الجيش حالياً.

ثمة عامل سببي آخر أكثر أهمية راح يفعل فعله بثبات بعد الاستقلال مثلما كان تحت الحكم الفرنسي. ألا وهو وضع العلويين الاقتصادي السيئ.

حافظ الأسد مع قائد الحرس الجمهوري اللواء عدنان مخلوف (ابن عم زوجته أنيسة)

بدَل الإعفاء من الجيش

وهناك أمر آخر ذو صلة يقدم تفسيراً للعدد المتفوق للعلويين، على الأقل بین المجندين العاديين، هو موضوع البدل.
قبل عام 1964، كان مسموحاً للسوريين أن يشتروا إعفاء من الخدمة العسكرية مقابل 500 ليرة. وفي عام 1964، قيدت تلك العملية بشدة. ورفع البدل إلى 2000 ليرة لحاملي الشهادات الجامعية، و 1000 ليرة لخريجي المدرسة الثانوية، و 600 لغيرهم من السوريين.

وفي عام 1968، رفع الحد الأقصى للبدل إلى 3 آلاف دولار، ووصل في عام 1978 إلى 5 آلاف دولار. وبات من الواجب تسديده بعملة صعبة. غير أنه كان بمقدور سنّة المدن عموماً، في الخمسينيات والستينات، وبغض النظر عن مدى تواضع وضعهم، أن يتحملوا التضحية ب 500 أو 600 ليرة سورية ليتجنبوا سنة ونصف السنة أو سنتين من الخدمة الإلزامية.

أما بالنسبة إلى الفلاحين، ولا سيما العلويين فكانت 500 أو 600 ليرة تمثل قيمة مواسم عدّة من العمل الشاق. علاوة على ذلك ، قلّما كان الفلاحون خالين من الدَّين.

إذا عُرف السبب…

بيد أن صعود العلويين إلى الهيمنة في سلك الضباط هو، في النهاية، ما أكد سيطرتهم الحاسمة على القوات المسلحة. وما عمل لمصلحتهم في هذا الخصوص، أكثر من أي أمر آخر، هو أنه في حين كان الضباط العلويون في أغلبيتهم الساحقة من أصول ريفية ومنبت قروي وأبناء منطقة واحدة، وذوي انتماء بعثي بعد عام 1955، كان الضباط السنّة منقسمين انقساماً لا براء منه سياسياً وإقليمياً وطبقياً. ولا شك في أنه كانت هناك انقسامات في صفوف العلويين أيضاً، كما أثبت اختلاف محمد عمران مع بقية الأعضاء العلويين في اللجنة العسكرية في عام 1964، واغتياله في عام 1972، والصراع على السلطة بين صلاح جديد وحافظ الأسد في فترة 1968-1970. لكن هذه الانقسامات نشأت من صراع شخصیات أو تباين في وجهات النظر. في حين أن الانقسامات بين الضباط السنة غالباً ما كانت ذات معنی بنیوي أعمق.

وهكذا ، كان هؤلاء الأخيرون متمایزین بوضوح إلى ضباط ريفيين وضباط حضريين. وبين الحضريين، كان الأكثر نشاطاً والأكثر تميزاً سياسياً هم الدمشقيون والحمويون، وبين الضباط الريفيين، مجموعتا دير الزور وحوران.

كان الدمشقيون ناصريين جزئياً، لكنهم تماهوا، في الأغلب، مع الانفصاليين الذين مثلوا متاهة من العناصر المتضارية التي تراوح بين مجموعات ذات جذور في الشرائح التجارية والصناعية مالكة الأراضي الغنية من المجتمع، وإخوان مسلمين واشتراكيين ويساريين مستقلين من الطبقتين الوسطى والوسطى الدنيا. وتعاطف الحمويون إلى حد بعيد مع أكرم الحوراني ذي الميل الاشتراكي وجزئياً مع النخبة القديمة. وكان بعض الضباط من دير الزور وحوران ناصريين، لكن اختار معظمهم حزب البعث.

الضباط السنّة عوامل تصفية ذاتية

نتيجة الانقسامات في صفوف الضباط السنة – وأنا هنا أبسّط على نحو ما وضعاً بالغ التعقيد – كان الأمر ينتهي بسنّة من جماعة معينة إلى تصفية سنّة من جماعة أخرى، أو إلى انضمام سنة من الطبقة الدنيا أو المتوسطة إلى علويين أو دروز في تصفية سنّة الطبقة العليا، أو انضمام سنّة ذوي توجه ريفي إلى علويين ودروز في تصفية السنّة ذوي الأساس الحضري.

وبالمعنى السياسي، صُفّي الانفصاليون وأنصار أكرم الحوراني والناصريون ومجموعة المستقل زياد الحريري وأنصار البعثي أمين الحافظ بین آذار / مارس 1963 وشباط فبراير 1966. ومع كل تصفية، كان عدد السنة يتناقص عدداً وأهمية. أما الضربات في آب / أغسطس وأيلول / سبتمبر 1966 ضد الدروز ( مجموعتا فهد الشاعر وسليم حاطوم)، والضربات في شباط / فبراير 1968 ضد بقية الكتلة السنية الريفية ( مجموعة أحمد سويداني الحورانية ) فعادت على الضباط العلويين بسيطرة واضحة على الميدان، على الرغم من الصدع الذي عكسته فيما بينهم.

بشار الأسد يتناول الطعام مع ضباط من جيشه

في حين كان الضباط العلويون في أغلبيتهم الساحقة من أصول ريفية ومنبت قروي وأبناء منطقة واحدة، وذوي انتماء بعثي بعد عام 1955، كان الضباط السنّة منقسمين انقساماً لا براء منه سياسياً وإقليمياً وطبقياً.

الأدوار القيادية في اللجنة العسكرية ودور الوحدات الضاربة

ساعدت الضباط العلويين أشدّ المساعدة في هذا الصراع أدوارُهم القيادية في اللجنة العسكرية والتنظيم العسكري لحزب البعث. تلك الأدوار التي مكنتهم، في المقام الأول، من التصرف بوصفهم بعثيين لا بوصفهم علويين. غير أنه يجب تعديل هذه الملاحظة. فالضباط العلويون لم يتصرفوا دوما انطلاقاً من وعي أنهم علويون. بل يجب أن نتذكر أنهم كانوا أشخاصاً ذوي أصول ريفية أو فلاحية. ويتصرفون على هذا الأساس. أي يتصرفون وفقاً للغرائز والنزعات التي كان وضعهم البنيوي يولّدها. بيد أنهم كانوا قادرين، نتيجة سيطرتهم على التنظيم العسكري لحزب البعث، على تنظيم القبول في الكليات العسكرية. وعلى خلط قيادات الوحدات العسكرية وإعادة خلطها بطرائق تستجيب لغاياتهم. وفعلوا ذلك بحذر في البداية – في الربع الثاني من عام 1963 – لكنهم فعلوه بتصميم بعد تموز / يوليو 1963. وبتصميم أشد بدءاً بشباط / فبراير 1966 فصاعداً.

علاوة على ذلك، ونتيجة تكتيك مبتکر في فترة الانفصال – أي بين عامي 1961 و 1963 – يقوم على زرع البعثيين في التنظيمات العسكرية السرية من كل الأطياف، ظلوا على معرفة بنیات جمیع خصومهم وخططهم.

هناك أيضا حقيقة أخرى ساهمت كثيراً في انتصارهم النهائي. وهي أنهم ركّزوا على الوحدات الضاربة القوية التي كانت ذات صلة مباشرة بالقيام بالانقلابات العسكرية أو إفشالها. ونجحوا في السيطرة عليها. وتلك الوحدات هي أسراب الطيران ووحدات الصواريخ والألوية المدرعة في العاصمة وحولها. فضلاً عن قوات المخابرات والمخابرات المضادة. بالطبع، بقي كثير من السنّة في سلك الضباط. لكن أهميتهم، إن كانوا مهمّين، كانت تتأتّى من كونهم أفراداً لا جماعة، وبالمعنى الاحترافي أكثر منه بالمعنى السياسي.

بقي كثيرٌ من السنّة في سلك الضباط، لكن أهميتهم – إن كانوا مهمّين- كانت تتأتّى من كونهم أفراداً لا جماعة.

اقرأ أيضاً:
الترقيات الاستثنائية في الجيش السوري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى