محطات تاريخيةمقالات

المعاهدة السورية الفرنسية في الشعر السوري

المعاهدة السورية الفرنسية في الشعر السوري
في التاسع من أيلول عام 1936 وفي حفل مشهود في قاعة الساعة بمقر الخارجية الفرنسية، أنهى الوفد السوري المفاوضات التي استمرت أكثر من خمسة أشهر. وتوّجها بتوقيع “المعاهدة السورية الفرنسية”.
وقع المعاهدة عن الوفد السوري رئيسه هاشم الأتاسي، بينما مثّل الجانبَ الفرنسي بيير فيينو وكيل وزارة الخارجية الفرنسية .

عاد الوفد إلى أرض الوطن ملوحاً بمعاهدة سماها “معاهدة الاستقلال” واستقبل أعضاء الوفد استقبال الفاتحين، وأقيمت المهرجانات والاحتفالات فرحاً بـ”استقلال سورية”. وأَحسنت الكتلة الوطنية استغلال الحدث فعملت دعايتها على الترويج لإنجازها الدبلوماسي فأَطلق عليها فارس الخوري لقب “معجزة القرن العشرين“، بينما قال سعد الله الجابري مُبالغاً: “لم يبق لفرنسا إلا أن تعطينا مرسيليا“. أما جميل مردم بك فوصفها بـ “عروس الشرق“.

نجحت الكتلة الوطنية في توظيف الدعاية لهذه المعاهدة في الانتخابات التي أجريت بعد عودة الوفد من باريس، فسيطرت على مجلس النواب الذي سارع إلى تصديقها، بينما بقيت معاهدة من طرف واحد، فقد تنصّلت فرنسا من التزاماتها ورفضت المصادقة عليها على الرغم من عيوبها الظاهرة وشروطها المجحفة بحق السوريين.

كانت هذه المعاهدة أول اعتراف ضمني سوري بتقسيم سوريّة الطبيعية، وتقليص حجم سورية ناقصة من كيليكيا ولبنان، كما اعترفت الحكومة مبكرةً مطلع العام 1937 على لسان وزير خارجيتها سعد الله الجابري بأن سلخ لواء إسكندرون أصبح أمراً واقعاً، وتضمنت المعاهدة أيضاً قبول نظام خاص بالجزيرة والفرات يمهد لانفصالهما لاحقاً. كما أباحت لفرنسا التدخل في شؤون الأقليات وضمنت لها إقرار قوانين خاصة بهم.

ومن الطبيعي أن تواجه المعاهدة معارضة من الأطراف السياسية كعصبة العمل القومي، والزعيم الوطني عبد الرحمن الشهبندر، فكيف تفاعل الشعراء مع هذا الحدث وتبعاته؟

“عروس الشرق” في شعر عمر أبو ريشة

حاولت الكتلة الوطنية إذن تزيين المعاهدة والترويج لها كإنجاز فريد، فهي “عروس الشرق” بحسب وصف جميل مردم بك الذي أصبح رئيساً للوزراء. وهنا يلتقط الشاعر الشاب عمر أبو ريشة هذا الوصف، ليصوغ قصيدته “العروس”. فهذه المعاهدة هي حقاً عروس بالَغ أهلها في تزيينها لإخفاء بشاعتها، ولكنّ الشاعر يحذر العاشق المخدوع (الشعب) ويظهر له حقيقة عروسه:

جَلَوها عروساً وكدّوا لها الحناجرَ بالنغمةِ الساحرةْ

وبُرقُعها من خفيّ الطلاسمِ يأخذ بالقلب والباصرةْ

صريعَ الهوى إنّ خلف البراقع تلكَ المطلّقةَ الفاجرةْ

فارس المنابر الشاعر والدبلوماسي عمر أبو ريشة
فارس المنابر الشاعر والدبلوماسي عمر أبو ريشة

الشاعر المجاهد محمود خيتي: “رجعتم ولا خفّي حُنين”

كان محمود خيتي المولود في دوما عام 1891 من مجاهدي الغوطة، شارك في ثورتها عام 1925، واضطر إلى الهجرة إلى مصر بعد انتهاء الثورة، وصادرت فرنسا أملاكه وحرقت بيته في غيابه. وكان خيتي شاعراً مُجيداً، وأصدر في حياته ديوانين من الشعر.

عندما وقّعت المعاهدة قال أحد الشعراء مادحاً الوفد السوري:

وسرتَ إلى باريسَ كالنجم سارياً
يرافقكَ التوفيق في طالع السعدِ

فقابلتمو فيها أجلّ رجالِها
مقابلةَ الأحبابِ والنّدِّ للنّدِّ

فردّ عليه الشاعر محمود خيتي بتشطير أبياته، فقال ساخراً:

(وسرتَ إلى باريسَ كالنجم سارياً)
ببرجِ نحوسٍ كان منكَ على عمدِ

لذا قلتُ والأقوالُ صحّتْ عليكَ: لا
(يرافقكَ التوفيق في طالع السعدِ)

(فقابلتمو فيها أجلّ رجالِها)
وكنتُمْ كمستجدي العطاءِ من الضدِّ

رجعتُمْ ولا خفّي حُنينٍ، أهكذا
(مقابلةُ الأحبابِ والنّدِّ للنّدِّ)!

محمود-خيتي-من شعراء-دوما-ومجاهديها
محمود خيتي من شعراء دوما ومجاهديها

خليل مردم بك يقرّع قريبه رئيس الوزراء، وعمر يحيى يتهم الرئيس الأتاسي

بعد تغير الحكم في فرنسا وذهاب حكومة بلوم التي فاوضت السوريين، وسقوط المعاهدة فرنسياً، سافر رئيس الحكومة السورية جميل مردم بك إلى باريس في تشرين الثاني 1937، ووقّع عدة ملاحق للمعاهدة السورية الفرنسية، فيها الكثير من التنازلات، منها ضمانات إضافية للأقليات والتأكيد على الاستعانة بخبراء فرنسيين دائمين في مؤسسات الحكم السورية. ولكن الحكومة الفرنسية استمرت في رفضها تصديق المعاهدة، فتوجه مردم بك إلى باريس في آب 1938 ومكث فيها ثلاثة أشهر متواصلة، وقّع خلالها على تنازلات إضافية وأعطى الفرنسيين حق التنقيب على النفط في المنطقة الشرقية في اتفاقية سميت اتفاقية “مردم-بونه” على اسم جورج بونه وكيل وزارة الخارجية الفرنسية الجديد.

ولكنّ أسوأ مفاعيل هذه المعاهدة هو التخلي عن لواء إسكندرون والوقوف موقف المتفرج من ضياعه.

كتب الشاعر خليل مردم بكوهو واضع النشيد الوطني السوري – قصيدة طويلة شملت كل الأحداث والمصائب التي مرت بسورية بعد توقيع الاتفاقية، ووجه كلاماً قاسياً لقريبه جميل مردم بك رئيس الحكومة وألقى عليه تهمة التفريط باللواء:

يا لابس الثوب مزھوّاً بجدّته
انظر فقد علقت في ذيله النارُ

عساك تزعمُ أنّ الأمرَ بتَّ به
مَن دون عَلمكَ، ھل في ذاك إعذارُ؟

يقضى على حقّنا بغیاً ولیس لنا
علمٌ … لعمريَ ھذا الھُونُ والعارُ

الشاعر والوزير خليل مردم بك
الشاعر والوزير خليل مردم بك

أما شاعر النواعير عمر يحيى (الفرَجي)، وكان مدرّساً في أنطاكية، وعاش مع رفاقه مأساة النزوح عنها، فقد اتَّهم الحكومة بالحرص على المناصب، وحمّلها مسؤولية ضياع اللواء، فقال في قصيدة وجّه فيها كلامه إلى الحكومة والرئيس هاشم الأتاسي:

بكوا فقد اللواء لنا رياءً
وهم طعنوا البلاد وضيَّعوهُ

أَبَعدَ الثورة الحمراء يرضى
بنُونا أن يفارقهم بنوهُ

أفيقوا
إن يضِع فلسوفَ يأتي
زمانٌ فيـه يتلوه أخوه

أضاعوهُ لكي تَبقى الكراسي
فيا لدمٍ يُضيّعه ذووه

فصفِّقْ للرئيس ولا تعارضْ
وإن ينطقْ فقلْ لا فضَّ فُوه

الشاعر عمر يحيى الفرجي - من الرعيل الأول من التربويين السوريين
الشاعر عمر يحيى الفرجي – من الرعيل الأول من التربويين السوريين

ولعلّنا بعد هذه الجولة السريعة على مواقف الشعراء من المعاهدة وما تلاها من نوائب، يظهر لنا بُعد نظر الشاعر عمر أبو ريشة الذي استشرف مبكراً نتائجها وأظهر حقيقتها، بينما تحولت الجماهير التي هللت للمعاهدة متأخراً إلى جموع ساخطة على المعاهدة وصانعيها.



اقرأ أيضاً

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى