رؤساء وحكامشخصياتمقالات

هل كان هاشم الأتاسي حقاً ضد حكم العسكر

هل كان هاشم الأتاسي حقاً ضد حكم العسكر
يحلو للبعض تسمية الرئيس السوري هاشم الأتاسي باسم “أبي الدستور” أو “عدو الحكم العسكري” وغيرها من الألقاب الفخمة التي تكرس فكرة التزامه بالدستور وعدائه للانقلابات العسكرية، فهل حقاً تملك هذه التسميات نصيباً من الحقيقة؟ أم أنها تصطدم بالوقائع والحقائق التاريخية ولا تعدو أن تكون جزءاً من حالة “النوستالجيا” أو الحنين إلى الماضي الجميل الذي صنعه السوريون في مخيلتهم كردّ فعل على رداءة حاضرهم. وهل كان هاشم الأتاسي حقاً ضد حكم العسكر أم أنه سار في ركابهم وأيّدهم؟

هاشم الأتاسي وانقلاب حسني الزعيم

أيدت معظم شرائح المجتمع السوري انقلاب الزعيم، وتنافست برقيات التأييد للانقلاب منذ يومه الأول في إظهار موقف الولاء للجيش في حركته التي خلصت البلد من حالة “الفساد” التي كان يرون أنها عمت البلاد في العهد السابق. وينقل الوزير أسعد الكوراني في مذكراته مستغرباً أن “الناس كلهم كانوا مسرورين من الانقلاب. وكان البشر يبدو على وجوههم”.
كما أيده عدد كبير من السياسيين والزعماء ورجال الدولة وتعاونوا معه، ومنهم فارس الخوري وسلطان الأطرش وعادل أرسلان وأكرم الحوراني وعلي بوظو ومحسن البرازي وعطا الأيوبي وزكي الخطيب وفيضي الأتاسي، وغيرهم كثير. بل كان من مؤيدي الانقلاب صبري العسلي من الحزب الوطني الذي يتزعمه الرئيس القوتلي المنقلَب عليه، والذي أوفده حسني الزعيم في الثاني من أيار عام 1949 بمهمة رسمية برتبة وزير إلى العراق رداً على زيارة نوري السعيد.
فهل شذّ هاشم الأتاسي عن كل هؤلاء؟ وهل كان الأتاسي أكثر وطنية واحتراماً للدستور والقوانين منهم حتى نفرده بهذه الصفات؟

الأتاسي حاقد على القوتلي!

يحكي رئيس الوزراء خالد العظم في مذكراته تفاصيل أيام السجن الذي زجّه فيه الزعيم مع الرئيس القوتلي لحين تقديم استقالتيهما، ويروي أنه كان يستمع إلى الأخبار من مذياع في غرفة ضابط الحرس التي كانت تفصل بين غرفته وغرفة الرئيس القوتلي. وممّا ذكره:

“بدأنا نسمع الأخبار التي تذيعها محطة دمشق، وهي مليئة بمديح الزعيم وبأخبار المظاهرات والبرقيات التي كانت ترد إليه بتأييد موقفه، ولم يكن بين مرسلي البرقيات شخصيات مرموقة سوى سلطان الأطرش وهاشم الأتاسي والجابري. ولم أَعجب من موقف الأولين، إذ كانا حاقدين على الرئيس، أما الأخير فقد زال عجبي حين علمتُ، فيما بعد، أن مرسل البرقيّة لم يكن شقيق المرحوم سعد الله الجابري، بل أحد أفراد عائلته”.

ويؤكد أمر هذه البرقية مازن صبّاغ في كتابه (الانقلاب الأول في سوريا) حيث ورد اسم هاشم الأتاسي مع فارس الخوري وسلطان الأطرش وآخرين أرسلوا برقيات ومذكرات تأييد للانقلاب.

الأتاسي يدعو إلى تأييد انقلاب “الجيش الباسل”

كما يشير الكاتب والصحفي بشير العوف إلى تأييد هاشم الأتاسي للانقلاب في الكتاب الذي وضعه عن انقلاب حسني الزعيم بعنوان “الانقلاب السوري: أسبابه ودوافعه ومراميه، وكيف تمت حوادثه”
ومما نقله عن هاشم الأتاسي بهذا الخصوص:

في اليوم العاشر من نيسان الحالي تحدّث فخامة السيد هاشم الأتاسي في مجمع من عيون البلاد. فقال: “إني أؤيد هذا الانقلاب تأييداً مطلقاً بدون قيد أو شرط. وإني أنصح إلى كل نائب، وإلى كل سوري أن يؤيده ويتعاون مع أبطاله.
إن هذا الانقلاب كان أمراً لا مفرّ منه. بل كان أمراً محتوماً. ولو لم يقع اليوم لوقع غداً، لأنّ القائمين على الحكم في سوريا قد اشتطوا واندفعوا في هذا الشطط. مما كان سيؤدي حتماً إلى شطر الأمّة شطرين.

وإني أشكر الله تعالى على نعمه وآلائه بأن تمّ هذا الانقلاب على يد جيشنا الباسل بدون إراقة نقطة دم أو إطلاق رصاصة واحدة”.
هاشم-الأتاسي-يمدح-انقلاب-حسني-الزعيم
هاشم الأتاسي يمدح انقلاب حسني الزعيم – من كتاب (الانقلاب السوري) – بشير العوف

ومما يؤكد تأييد هاشم الأتاسي للانقلاب البرقيات التي أرسلها آل الأتاسي أفراداً وجماعات تأييداً لانقلاب حسني الزعيم. والتي نشرتها الصحف السورية في الأيام الأولى للانقلاب.
كما أن موقف هاشم الأتاسي جاء متسقاً مع موقف ابن أخيه فيضي الأتاسي الذي كلّفه الزعيم بتأليف أول حكومة بعد الانقلاب، ولكنه لم يوفّق في تشكيلها، فهل كان هذا الموقف خافياً عن الرئيس الأتاسي!

بعض-برقيات-ومواقف-التأييد-المنشورة-في-جريدة-ألف-باء-والتي وردت-من-آل-الأتاسي-في-الأسبوع-الأول-انقلاب-الزعيم
بعض برقيات ومواقف التأييد المنشورة في جريدة ألف باء والتي وردت من آل الأتاسي في الأسبوع الأول من انقلاب الزعيم

هاشم الأتاسي وانقلاب سامي الحنّاوي

بعد انقلاب سامي الحنّاوي على حسني الزعيم وقتله مع رئيس وزرائه محسن البرازي بلا محاكمة، تعاون هاشم الأتاسي مع الانقلاب الجديد وأيّده وأعطاه الشرعيّة بقبوله تكليف الحنّاوي له بتأليف الحكومة. وهي مهمة كان يستعدّ لها آل الأتاسي منذ ليلة الانقلاب، عندما قال فيصل الأتاسي أحد منفذي الانقلاب لرفاقه: هل أذهب إلى حمص لإحضار عمّي؟

وبدلاً من إعادة “الحياة النيابية والمجلس النيابي ورد الاعتبار للرئيس المنتخب شكري القوتلي، أيدت حكومة الانقلاب الجديد قرار حسني الزعيم بحل المجلس النيابي. ورضي “أبو الدستور” بإلغاء الدستور الذي شارك في وضعه تأييداً لقرار حسني الزعيم. فكيف يرضى “حامي الحياة الدستورية” بمسايرة العسكر ومتابعة إجراءات غير دستورية!

سيقول المعترضون: هو حاول ذلك ولكن اصطدم بإرادة العسكر والقوى السياسية التي كانت ترفض عودة القوتلي فاضطر لموافقتها، وهذا -إن صح- يعيدنا إلى المربع الأول: هو لم يصادم العسكر ولم يرفض العمل معهم، بل عمل في ظلهم ضمن حدود الممكن وليس في ضوء المبادئ الدستورية. فبماذا يختلف عن غيره!

هاشم الأتاسي وانقلاب الشيشكلي

تعايش هاشم الأتاسي مدة عامين مع انقلاب الشيشكلي نهاية عام 1949، وكان يعلم أن الشيشكلي هو صاحب الكلمة الأولى في البلاد، وكان منصب الرئاسة هو الحلقة الأضعف في الحكم خاصة بعد إقرار الدستور الجديد عام 1950 ونزع صلاحيات الرئيس ومنحها لمجلس الوزراء، وأصبح باستطاعة مجلس الوزراء بموجب الدستور تمرير أي قانون يرفضه رئيس الجمهورية الذي تحوّل إلى رئيس تشريفات، وتحوّلت رئاسة الجمهورية إلى منصب رمزي.

وحتى عندما قام الشيشكلي بانقلابه الثاني في تشرين الثاني عام 1951 بسبب الخلاف على منصب وزير الدفاع، استمر هاشم الأتاسي في منصبه في محاولة لتأليف حكومة جديدة توافقية. ولكنّه فشل في تأليفها. وانتظر هاشم الأتاسي حلول الشهر الجديد وقبض راتبه وقدّم استقالته. وعاد إلى مدينته حمص، كعادته مع كل استعصاء سياسي.
ألا يذكّرنا هذا بقول معروف الرصافي:

وليس له من أمرِه غير أنّه
يعدّدُ أيّاماً ويقبض راتبا

هاشم الأتاسي وانقلاب ابن أخيه فيصل

بعد انقلاب أديب الشيشكلي الثاني والذي مهد لاستلامه منصب الرئاسة، فطن الأتاسي هذه المرة إلى أن هناك دستوراً تغيّر ومجلس نواب تمّ حلّه، فترأس مؤتمراً لمعارضة حكم الشيشكلي “الديكتاتور” الذي أخرج معارضيه من السجن وسمح لهم بالاجتماع ضده. وبدأ هاشم الأتاسي بالعمل مع الهاشميين في العراق لإعادة الديمقراطية و”الحكم الدستوري” بالعمل المسلّح والاتصال الخارجي وقبض الأموال. وشرع الأتاسي ورئيس وزرائه معروف الدواليبي بالاتصال بالأمير عبد الإله الوصي على العرش في العراق، وطلب الإمداد بالمال والسلاح لدعم التمرد الذي كان مقرراً أن يبدأ من جبل الدروز.
ويشير خالد العظم في مذكراته إلى هذه الاتصالات والأموال التي تلقاها معارضو الشيشكلي. ومنهم ابن هاشم الأتاسي الدكتور عدنان فيقول:

“كان عدنان الأتاسي ومعروف الدواليبي وصبري العسلي وميخائيل ليان يقبضون مئات ألوف الليرات السورية. فيوزعون بعضها. ويحتفظون بالباقي. وقد أعلنت محاكمات بغداد في 1959 هذه الفضائح، مع الأرقام وأسماء القابضين. كما كشف النقاب عن من يقبضون الرواتب كلطفي الحفّار. وساد الخزي والعار على جباه أولئك العملاء”.

أما العقيد محمد معروف – وهو ممن عمل للانقلاب على الشيشكلي- فيؤكد هذه الاتصالات في مذكراته (أيام عشتها) فيقول:

“لقد أرسل الأتاسي رسالتين إلى الأمير عبد الإله يطلب العون والمساعدة والوقوف إلى جانب سورية في هذا الوقت العصيب: أرسل الرسالة الأولى مع أحد أقطاب الحزب الوطني، والثانية مع الدكتور معروف الدواليبي. وكان أخوه مصطفى الدواليبي قد سرّح من الجيش ولجأ إلى العراق وانضم إلى “حركة سورية الحرة” بقيادة العقيد محمد صفا. فاستجاب العراق لطلب سورية وأمدها بالسلاح الذي أرسله إلى جبل الدروز وبالمال الذي أودع باسم محمد شقير في لبنان. كانت الأموال تصرف على الدعاية. كما وضعت إحدى الصحف بتصرف البعث الاشتراكي. وكانت بعض الأموال تصرف لشراء الأسلحة وإرسالها إلى دمشق بواسطة عادل العجلاني عن طريق (مرجعيون). وقد كلفت أنا شخصياً بشراء بعض الأسلحة وتسليمها إلى عادل العجلاني”.
العقيد-محمد-معروف-قبضنا-الأموال-من-العراق-وأرسلنا-السلاح-إلى-جبل-الدروز
العقيد محمد معروف: قبضنا الأموال من العراق وأرسلنا السلاح إلى جبل الدروز

معايير مزدوجة

ولكن الوضع يختلف عند هاشم الأتاسي مع الانقلاب ضد الشيشكلي في شباط عام 1954. فكان لا بد من إعادة الدستور القديم ومجلس النوّاب القديم والرئيس القديم الذي صادف أنه عمّ منفّذ الانقلاب.
ويعلق الوزير والفقيه الدستوري السوري أسعد الكوراني على هذا التناقض وازدواجية المعايير في موقف هاشم الأتاسي من حكم الشيشكلي وحكم من سبقه من العسكر :

“حسني الزعيم نفسه قام بعمل غير مشروع بالاستيلاء على السلطة وإلغاء الدستور والعمل على وضع دستور جديد. فلما قام الحناوي وأعوانه بانقلابهم عليه كان المفروض إعادة الحكم السابق بدستوره ورئيسه وزرائه. ولكن الذين دعاهم الحناوي وأعوانه من كبار الساسة المدنيين قبلوا باستمرار انقلاب الزعيم. ورضي رئيس كهاشم الأتاسي أن يقبل رئاسة الوزارة من الحناوي بمرسوم منه بوصفه قائداً عاماً للجيش والقوات المسلحة”.

ليس المقصود من هذه المقالة الانتقاص من الرئيس هاشم الأتاسي. ولكن المقصود هو تبيين الموقف الحقيقي لهاشم الأتاسي من حكم العسكر والانقلابات. وإظهار الحقائق وعرضها في إطارها الصحيح وسياقها التاريخي بدلاً من ترديد الشعارات والألقاب الرنانة. وألا يقودنا سوء حاضرنا إلى خلق ماضٍ شاعري متخيل أبعد ما يكون عن الحقيقة.

ولنتذكر أنّ الرئيس هاشم الأتاسي عاش الشطر الثاني من حياته السياسية تحت ظل الانقلابات. فقد جاء به إلى الحكم انقلاب أول. وتعايش مع انقلاب ثانٍ. واستفزّه للاستقالة انقلاب ثالث. وأعاده لمنصبه انقلاب رابع. وكل هذا تحت عنوان: “الحياة الدستورية”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى