رجال دينشخصياتصحافة زمان

لقاء صحفي نادر مع الشيخ بدر الدين الحسني

لقاء صحفي نادر مع الشيخ بدر الدين الحسني
يحظى الشيخ بدر الدين الحسني (1850 – 1935) بشهرة واسعة كأحد أهم علماء الدين الإسلامي في بلاد الشام.
وعلى الرغم من هذه الشهرة الواسعة والصيت الذائع للشيخ -وهو والد الرئيس السوري تاج الدين الحسني– فإن حجم التوثيق في سيرته التي وصلت إلينا ما يزال في الحد الأدنى رغم قرب عصره من زماننا. وما يزال المنسوب للرجل من أخبار ومواقف خليطاً من الحكايات والمبالغات والذاكرة الشفهية.

وفي سبيل إغناء هذه السيرة بالوثائق، ننشر لقاء صحفياً نادراً مؤرخاً بتاريخ 8 تشرين الأول عام 1928، أجرته مجلة (كل شيء والعالم) المصرية مع الشيخ بدر الدين الحسني عندما زار مندوبون عنها مدينة دمشق عام 1928.

عند أكبر محدّث إسلامي في العالم

مبادئ لوكارنو و كيلوج في صومعة زعيم مسلم عظيم
لسماحة الأستاذ بدر الدين أفندي الحسني منزلة رفيعة في قلوب مسلمي بلاد الشام يندر أن يتمتع بمثلها زعيم ديني آخر. ويعد سماحته أكبر محدث إسلامي في العالم قاطية، فإن العلماء الذين يدرسون العلوم الدينية عليه يؤكدون أن الأحاديث الشريفة التي يستوعبها عن ظهر قلب لا تقل عن أربعمائة ألف حديث. وقد تقرب من نصف مليون. وهو يلقي عقب صلاة الجمعة في الجامع الأموي بدمشق ما يقرب من ألف حديث تقريباً يستغرق سردها ساعات برمتها لا يستريح في خلالها لحظة واحدة. وتختلف الأحاديث التي يلقيها كل أسبوع عن الأحاديث التي يكون قد سبق له أن رواها في الأسبوع الذي قبله. وهو يسرد لك تلك الأحاديث العديدة مع تعداد أسماء الرواة الذين تناقلوها على مر الأيام. كأن يقول حدث فلان عن فلان عن فلان. وهكذا يظل يسند الحديث من شخص إلى آخر إلى أن يسند الأصل إلى خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام.

ومما يزيد في رفعة المقام الذي يتبوأه الشيخ بدر الدين أفندي الحسني عيشة الزهد والتقشف التي يعيشها منذ حداثته، فإنه منذ بلوغه سن الرشد يصوم صوماً مستمراً لم ينقطع عنه يوماً واحداً حتى الآن. فلا يذوق في أثناء النهار طعاماً ولا شراباً بل يأكل قليلاً من الخضار واللحم عقب غروب الشمس. ويتناول كأساً من اللبن مع البيض قبل انبثاق الفجر. ثم يصوم نهاره كأنه في شهر رمضان المبارك. والمأثور عن سماحته أنه لا يأكل الخبز مطلقاً، وأنه لا ينام في الليل أكثر من ساعتين أو ثلاث ساعات.

الشيخ بدر الدين في حراسة الجند الفرنسي
ويقطن الشيخ بدر الدين أفندي في دار ملاصقة للجامع الأموي. ولكنه على الرغم من السنين السبعين التي يحمل ظهره عبئها تراه يخرج في صبيحة كل يوم إلى “دار الحديث” ماشياً. ويمكث فيها طول النهار مع المجتهدين الذين يدرسون عليه. و”دار الحديث” هذه مدرسة يتعلمون فيها العلوم الدينية وبعض العلوم الأخرى. وقد أسندت إدارتها إلى الشيخ بدر الدين أفندي. وهو لا ينقطع عن الحضور إليها حتى في أيام الشتاء الباردة. لا بل إنه لم ينقطع عنها حتى في أثناء الثورة السورية الأخيرة حينما كانت المقذوفات النارية تتبادل في أزقة دمشق بين الثوار والجند الفرنسي. فكان ولاة الأمور الفرنسيين مع تنبيههم على الأهلين بعدم مغادرة دورهم في بعض الأوقات لا يرون سبيلاً إلى منعه من مبارحة داره. فكانوا يعهدون إلى شرذمة من الجند في حراسته إلى أن يصل إلى “دار الحديث” لئلّا يلحق به أذى في أثناء العراك. وقد بلغ من شدة حزن سماحته على الدماء البريئة التي كانت تراق على قارعة الطريق أن امتنع عن مقابلة زائريه. ويقول المحيطون به إنه كان يمضي ساعات النهار والليل بالبكاء.

مع الشيخ في دار الحديث
وللشيخ بدر الدين أفندي في “دار الحديث” حجرة صغيرة هي أشبه شيء بصومعة الناسك؛ حجرة لا يزيد طولها عن مترين ولا يتجاوز عرضها ثلاثة أمتار. ولا ترى أينما تحيل الطرف فيها سوى كتب قديمة مخطوطة أو مطبوعة مرصوصة أمام “الطرّاحة” التي يتربع عليها الأستاذ الأكبر ليعيد تصفح تلك الكتب التي قلّب فيها مئات المرات. ولا تقتصر هذه الكتب على البحث في الموضوعات والمسائل الدينية، فإن هناك عدداً منها يبحث في العلوم الهندسية والفلكية والطبية وغيرها. ولكن نحن في غنى عن القول هنا إن هذه الكتب ليست من المؤلفات العصرية. بل كلها من الكتب القديمة التي تبحث في تلك العلوم كما كانت معروفة عند العرب.

وقد انتهزنا فرصة إقامتنا في دمشق في الأسبوع الماضي وقصدنا “دار الحديث” لزيارة الشيخ بدر الدين أفندي فتفضّل سماحته واستقبلنا في الحجرة المعدة للاستقبال، وهي حجرة ضيقة أيضاً. وقد أثثت تأثيثاً بسيطاً جداً. وبعدما تبادلنا التحية سألَنا سماحتُه: هل نحن من مصر؟ فأجبناه بالإيجاب. ثم قلنا إن ما لسماحته من الصيت الذائع في الأقطار الإسلامية والمقام الرفيع في نفوس أبنائها بعثَنا على السعي إليه لتحيته وسماع حديثه. فطأطأ الأستاذ رأسه من شدة الحياء والتواضع حتى كادت جبهته تلمس ركبتيه. ولما انتهينا من كلامنا ظل مطرقاً قليلاً، ثم رفع رأسه وهو يقول: “أرجو أن تهدوا سلامي إلى أهل مصر كلهم”.

سألنا سماحته كيف أتيح له استيعاب ذلك العدد الكبير من الأحاديث التي حفظها عن ظهر قلب. فقال بلطف عظيم: “دعك من هذا”. فسألناه “هل لم يضع تفسيراً لكتاب الله الكريم”، فقال بلطف أيضاً: “دعك من هذا .. دعك ..”.
وقد علمنا فيما بعد أن سماحته يأبى دائماً الإجابة عن مثل هذه الأسئلة، لأنه يخشى إن هو تحدّث عن نفسه أو عن بعض مآثره أن يتطرق الغرور إلى نفسه أو أن يساور أذهان سامعيه أنه كان قد وضع تفسيراً قيّماً ضخماً للقرآن الكريم. ولكنه احترق في حريق سوق الحميدية الشهير من نحو خمس عشرة سنة. وأخبرنا بعض المقرّبين إليه أن لسماحته مؤلفات كثيرة يأبى طبعها في حياته. ومن ذلك أن أحد تلامذته استولى مرة على مؤلف من تلك المؤلفات وطبعه في مصر، فلم يرتح سماحته إلى مسلكه وأقصاه عن مجلسه وأرسل يشتري جميع النسخ التي طبعت من كتابه وحفظها في مكتبته.

الشيخ بدر الدين وآراء في الإنسانية والسلام والجهاد
واستطرد بنا الحديث إلى الكلام عن الإنسانية وعلاقات الناس بعضهم ببعض. فقال الشيخ بدر الدين أفندي: “إنه لما أرسل الله أنبياءه إلى الأرض عمل فريق من البشر بنصحهم وإرشادهم، أبى الفريق الآخر الاهتداء بهديهم. وأقاموا على بلادهم حكاماً يديرون شؤون العباد فلم يكن من جميع أولئك الحكام إلا أن اتفقوا مع رسل الله على أمور أربعة تؤلف المبادئ الأساسية في الشرائع الدينية كلها. وهي: أولاً حفظ العقول من المسكرات، وثانياً حفظ الدماء من السفك، وثالثاً حفظ الأعراض من العبث بها، ورابعاً حفظ الأموال”.
قال الأستاذ: “فلو أن الناس عملوا بهذه المبادئ التي اتفقت الآراء عليها لساد العالم السلام”.
وهنا أطرق سماحته لحظة ثم قال: “وهناك كثيرون من الناس يسيئون فهم معنى الجهاد. ويجهلون أن الجهاد لا يصح أن يسمّى جهاداً إلا تنفيذاً لكلمة الله. فلو أن كل من يقدم على عراك يفكر ملياً في نوع عراكه لسلّم نفسه لغريمه في كثير من الأحيان بدلاً من أن يطلب من غريمه أن يسلّم نفسه له”.

وقد كان الشيخ بدر الدين أفندي يعزز كل نظرية من نظرياته بالاستشهاد ببعض الحوادث التي حدثت للنبي محمد عليه الصلاة والسلام أو لبعض من رجال الصحابة الكرام. وقد استشهد سماحته ببعض تلك الحوادث أيضاً للدلالة على الأهمية العظيمة لتي كان النبي يعلّقها على الأمان وحفظ الذمام. ثم قال: “إذا لجأ قوم إلى المسلمين مثلاً واحتموا بهم وجب عليهم قبول حمايتهم والدفاع عنهم. وليس ذلك فقط، بل إنهم مكلفون درء الأخطار عنهم إذا أراد معتدٍ أن يعتدي على سلامتهم”.
وبعد ما أفاض الشيخ بدر الدين أفندي في التكلم عن الحق والإنسانية وعلاقة الناس بعضهم ببعض، قلنا له: “إن المبادئ التي تنادون بها يا سماحة الأستاذ لا تخرج عن الأسس التي بنى عليها ساسة أوربا وأميركا ميثاقي لوكارنو وكيلوج“. فابتسم سماحته وقال: “إن هذه المبادئ ليست حديثة كما يظنون، بل هي ترجع إلى ألف وثلاثمائة وسبع وأربعين سنة خلت”.

صحة الشيخ ونشاطه
وهنا استأذنّا من سماحة الأستاذ في التفرج على حجرته التي وصفناها آنفاً فتفضّل بمرافقتنا إليها. وبعدما سرحنا الطرف فيها لم يسعنا إلا الإعراب لسماحته عن شدة إعجابنا بصحته ونشاطه. فإن عينيه ما تزالان تستطيعان قراءة الحروف الدقيقة بلا نظارات دون مشقة. وأسنانه ما تزال محتفظة بقوتها وبعددها الكامل، وهي ناصعة البياض وتلمع على منوال يغبطه عليه في الشبان. وقوى قدميه ما تزال كما كانت عليه في شبابه. فهو برغم تقدم سنّه يمشي في طرق دمشق الوعرة دون عصا. والغريب أنه لا يخرج من داره إلا ماشياً. وكثيراً ما يرتاض في متنزهات دمشق مستصحباً معه بعض جلسائه. فيتعبون هم من السير على الأقدام ويمضي هو في مشيه كأنه شاب ابن عشرين. ثم يفطن إلى تعبهم فيدعوهم إلى الركوب إذا شاؤوا على أن يستأنف هو نزهته ماشياً.

“كثيرون من الناس يسيئون فهم معنى الجهاد، ويجهلون أن الجهاد لا يصح أن يسمّى جهاداً إلا تنفيذاً لكلمة الله، فلو أن كل من يقدم على عراك يفكر ملياً في نوع عراكه لسلّم نفسه لغريمه في كثير من الأحيان بدلاً من أن يطلب من غريمه أن يسلّم نفسه له”

موقف الشيخ بدر الدين من التدخين والتصوير

ولا يذكر الشيخ بدر الدين أفندي أنه ذاق طعم الدخان في حياته. وقد قصّ علينا أحد تلاميذه أن من عادته إذا جلس في مجلس وعمد أحد الحاضرين إلى التدخين نهض سماحته بهدوء وغادر الحجرة التي يكون جالساً فيها دون أن ينبس ببنت شفة. والظاهر أن المسيو دي جوفينيل والجنرال ساراي اللذين كانا مفوضين ساميين لفرنسا في سورية سمعا بكُره الأستاذ للدخان. فلما زاراه في “دار الحديث” أمسكا عن التدخين في حضرته.

وقد حاولنا أن نفوز بصورة للشيخ بدر الدين أفندي كي تنشر مع هذا المقال فلم نوفق إلى ذلك. إذ قيل لنا إن سماحته لم يتصوّر في حياته، وأنه لا يرضى أن يأخذ أحد صورته. وروى لنا بعضهم بهذه المناسبة أنه لما كان سماحته سيزور فلسطين قريباً كان لا مندوحة له عن استصدار “جواز سفر”. ولما كان لا بد للجواز من حامله، طلب منه ولاة الأمور المختصون أن يبعث إليهم بصورته. فأجابهم بأنه لم يتصوّر، وأنه لا ينوي أن يفعل ذلك. فقرروا إعطاءه جوازاً دون صورة خلافاً للقاعدة المتبعة إكراماً له ومراعاة لمقامه الديني العظيم.

“إذا لجأ قوم إلى المسلمين واحتموا بهم وجب عليهم قبول حمايتهم والدفاع عنهم. وليس ذلك فقط، بل إنهم مكلفون درء الأخطار عنهم إذا أراد معتدٍ أن يعتدي على سلامتهم”
لقاء صحفي نادر مع الشيخ بدر الدين الحسني1
لقاء صحفي نادر مع الشيخ بدر الدين الحسني – الصفحة الأولى
لقاء صحفي نادر مع الشيخ بدر الدين الحسني2
لقاء صحفي نادر مع الشيخ بدر الدين الحسني – الصفحة الثانية

اقرأ ايضاً : الشيخ الرئيس والتعليم الديني

زر الذهاب إلى الأعلى