مقالات

تحت قبة البرلمان – تعديل الدستور لإعادة انتخاب الرئيس شكري القوتلي لولاية ثانية

وقائع جلسة البرلمان السوري في العشرين من آذار عام 1948 لتعديل الدستور لإعادة انتخاب الرئيس شكري القوتلي لولاية ثانية

كثيراً ما تثار مسألة تعديل الدستور السوري في عهد الرئيس شكري القوتلي كسنّة سيّئة بدأها الرئيس الراحل ثم أصبحت عُرفاً متوارثاً في العهود السياسية المتعاقبة في البلاد.

وكثيراً ما يتم تحميل تلك المسؤولية كاملة للرئيس القوتلي، مع أن قرار مجلس النواب بتعديل الدستور لتمكينه من إعادة انتخاب الرئيس لولاية ثانية جاء بإجماع المجلس، لم يتخلف عن تأييده عضو واحد من الأكثرية الساحقة التي حضرت جلسة التعديل.
ونحن هنا نقوم بزيارة إلى البرلمان السوري في جلسة التعديل لننقل ما حصل فيها ونذيع كلمات الحاضرين. ويبقى الحكم للقارئ المنصف.

الرئيس شكري القوتلي: أول من عُدّل الدستور لأجله

خلفية تاريخية قانونية

تنص المادة 68 من الدستور السوري الذي أقر في بيروت في 14 أيار عام 1930 بناء على صكّ الانتداب وبناء على أعمال الجمعية التأسيسية التي التأمت برئاسة السيد هاشم الأتاسي في دمشق من 9 حزيران إلى 11 آب 1928 على ما يلي:

ينتخب رئيس الجمهورية بالاقتراع السري وبأكثرية أعضاء مجلس النواب المطلقة. ويكتفى بالأكثرية النسبية في دورة الاقتراع الثالثة. وتدوم رئاسته خمس سنوات. ولا يجوز انتخاب أحد لرئاسة الجمهورية إلا إذا كان حائزاً على الشروط التي تؤهله للنيابة وقد أتم الخامسة والثلاثين من عمره.

وكانت هذه المادة تقيّد مدة رئاسة الجمهورية بخمس سنوات. وكان السيد شكري القوتلي قد انتخب رئيساً للجمهورية في آب عام 1943، ما يعني اقتراب انتهاء ولايته المحددة بخمس سنوات. فكان لا بد من تعديل هذه المادة، مع مواد أخرى متعلقة بها.

جلسة تعديل الدستور

اجتمع مجلس النواب في الجلسة الثانية من الدورة العادية الثانية للدور الاشتراعي الرابع يوم السبت 20 آذار 1948 برئاسة النائب محمد العايش رئيس مجلس النواب بالوكالة وحضور أكثرية النواب وغياب خمسة نواب هم :
الغائبون دون إجازة: زكي الخطيب – سامي كبارة
الغائبون بإجازة:
فارس الخوري (رئيس مجلس النواب الذي كان يرأس الوفد السوري في الأمم المتحدة)
عادل أرسلان (عضو الوفد السوري في الأمم المتحدة)
أكرم الحوراني (كان متطوعاً للقتال في جيش الإنقاذ)

خصصت الجلسة لمناقشة تقرير لجنة الدستور على تعديل المواد 68، 85، 89، وإلغاء المادة 115 من الدستور.

تألفت لجنة تعديل الدستور من: هاني السباعي رئيساً، ومحمد السراج مقرراً، وعضوية كل من صبري العسلي، لطفي الحفار، محمد آقبيق، لطيف غنيمة، عادل العجلاني، عدنان الأتاسي، عبد الوهاب حومد، فرزت المملوك، دهام الهادي، إبراهيم طيفور، رزق الله أنطاكي، جهاد الهواش. واجتمعت في مساء اليوم السابق لجلسة التعديل (مساء الجمعة 19 آذار) بحضور السيد محسن البرازي وزير الداخلية ممثلاً للحكومة.
بعد اطلاع اللجنة على ضبط جلسة النواب المؤرخ في 11 تشرين الثاني 1947 والمتضمن بعض الملاحظات على شكل تقديم الرغبة، تم تعديل المادة (68) على الوجه التالي:

ينتخب رئيس الجمهورية بالاقتراع السري وبأكثرية أعضاء مجلس النواب المطلقة. ويكتفى بالأكثرية النسبية في دورة الاقتراع الثالثة. وتدوم رئاسته خمس سنوات، ولا يجوز إعادة انتخابه مرة ثالثة إلا بعد مرور خمس سنوات لانقضاء مدة رئاسته الثانية. ولا يجوز انتخاب أحد لرئاسة الجمهورية إلا إذا كان حائزاً الشروط التي تؤهله للنيابة وقد أتمّ الخامسة والثلاثين من عمره.

وبعد تلاوة النص المعدل، سأل رئيس المجلس: هل لأحد ملاحظة؟ (سكوت)قبلت بالإجماع.

الوزير منير العجلاني: الفترة الواحدة من عمل الفرنسيين

بعد إقرار تعديل الدستور، أتيح المجال لأعضاء المجلس والوزراء الحاضرين بإلقاء كلماتهم. وبرزت كلمة هامة جداً ألقاها السيد منير العجلاني وزير المعارف، فقد أشار إلى أن تقييد الرئاسة بفترة واحدة كان من عمل الفرنسيين، وأن الزعيمين إبراهيم هنانو وفوزي الغزي أباحا انتخاب الرئيس مرتين في الجمعية التأسيسية في دستور عام 1928 وهو ما لم يتفق مع إرادة الانتداب الفرنسي.

قال العجلاني:

أحب في هذه اللحظة الحلوة أن نذكر الزعيمين الخالدين المغفور لهما إبراهيم هنانو وفوزي الغزي، فقد كانا من واضعي الدستور. وإن روحيهما لتحلقان اليوم فوقنا وتقولان لنا: ما بالكم تتحدثون عن تعديل الدستور؟ إنكم لم تعدلوه، وإنما أعدتم الدستور إلى أصله، فنحن في الجمعية التأسيسية أبحنا انتخاب الرئيس مرتين، فجاء الإفرنسيون وحذفوا من المادة الثامنة والستين حق التجديد، وفرضو التحديد. وقد ألغيتم من قبل المادة (116) التي أضافها الإفرنسيون إلى الدستور، فألغوا اليوم هذا القيد واستبقوا القديم على قدمه، لا تعديل ولا تبديل.

أيها السادة: نحن لا نعدل الدستور، ولكننا نعيد الدستور إلى صورته التي كان يعبر فيها عن وجدان الأمة. (تصفيق)

والعجلاني بهذه المداخلة التي نسب فيها منع التجديد للرئيس إلى عمل الانتداب الفرنسي، يلقي بظلال الشك على ما راج من أن الرئيس هاشم الأتاسي هو مصدر التقييد بفترة رئاسية واحدة، وأنه هو من أصر على إضافة هذا التقييد عندما كان رئيساً للجمعية التأسيسية التي وضعت الدستور. فهل اجتمعت رغبة هاشم الأتاسي بالتنسيق مع الفرنسيين على منع التجديد، أم أن الأمر كان من صنع الفرنسيين وحدهم كما أشار الوزير العجلاني، ولا يد لهاشم الأتاسي فيه!

كلمات النواب بعد إقرار تعديل الدستور

النائب محمد نوري الفتيح: “فخامة الرئيس فخر الأمة العربية

“فخامة الرئيس ليس رجل هذه الأمة ومناط آمالها ومعقد رجائها فحسب، بل هو فخر الأمة العربية وأجدر رؤسائها الذين تهتدي بهديهم وتستضي بنورهم”.
قد يظن القارئ أن هذه الكلمة مقتبسة من كلمة خالد العلي عضو مجلس الشعب التي خاطب بها الرئيس السوري بشار الأسد في الجلسة الشهيرة بعيد اندلاع الاحتجاجات ضده في آذار عام 2011، ولكنها في الحقيقة كلمة محمد نوري الفتيح نائب دير الزور في جلسة البرلمان السوري في العشرين من آذار عام 1948.

هناك فرق زمني بين الكلمتين يعادل 63 سنة، واختلاف طفيف في توزيع المفردات وبلاغة التعبير (الوطن العربي قليل عليك يا سيادة الرئيس)، ولكن المشترك بينهما في المديح المبالغ فيه للرئيس من “ممثل الشعب” الذي يفترض أنه يراقب العمل ويصوّبه ويحاسب القائمين عليه، هذا المشترك بينهما يطغى على أي اختلاف.

وقد نسج جميع المتكلمين في تلك الجلسة كلماتهم على هذا المنوال من المديح العالي والكلام العاطفي، حيث الكل يهنئ الأمة على تعديل الدستور الذي سيمدد للرئيس ولايته الرئاسية. وقد اخترنا لكم بعض هذه الكلمات:

محمد سليمان الأحمد (بدوي الجبل): يوم تعديل الدستور عيد اتحاد الأمة

وقال النائب محمد سليمان الأحمد: “أيها السادة ليست هذه الجلسة جلسة تعديل الدستور ولكنها مهرجان قومي رائع تتوحد فيه صفوف الأمة وأحزاب الأمة وكتل الأمة حول تأييد الجمهورية ورمز الجمهورية فخامة الرئيس الزعيم (تصفيق)

إن حياتنا النيابية على حداثة عهدها لتتقدم إلى الدنيا بأنبل التقاليد وأروع الصور. إن الأمة لترى في يوم تعديل الدستور عيداً أبلج من أعيادها لأنه عيد اتحادها، ولأنه عيد الوفاء لرمز حريتها وجهادها.
وأنت يا فخامة الرئيس الزعيم: لقد كتب الله لك أن تكون مبارك الطالع ميمون النقيبة، فجمعت هذه الأمة حول لوائك في نضالها، وأنت الآن تجمعها حول لوائك في سبيل تمكين لوائها وتوطيد استقلالها” (تصفيق).

النائب محمد المبارك

“إننا نعتقد أن في تجديد رئاسة الرئيس الحالي السيد شكري القوتلي (تصفيق!!) الذي أصبح مُلكاً ليس لنفسه وإنما للبلاد لجميعها وللقضية العربية أيضاً، أنّ في تجديد رئاسته استقراراً للسياسة العربية في بلاد العرب، ولذلك وجدنا هذا الإجماع الصادر عن عاطفة قوية صحيحة”.

النائب الدكتور أديب نصور: نعم، نحن نعدّل الدستور لأجل شخص

نحن نواب هذا المجلس كفراش الربيع نقضي فصلنا ثم نمضي، ولكن المهم أن تبقى بعدنا أفعال وتقاليد ومؤسسات ومكرمات. قد يأتي ذلك المؤرخ بعدها ويتساءل: لماذا عدل نواب عام 1947 دستور البلاد؟ وقد لا نكون يومذاك موجودين للرد والدفاع.
لا يمكن لأمة من الأمم أن تضع دستوراً لدولتها وتنقش أحكام هذا الدستور على الحجر فتلمس له البقاء والخلود، لأن البقاء لله وحده في السماء.
أيها السادة: لقد قيل إن النواب يعدلون الدستور من أجل شخص. نعم إننا نعدل الدستور من أجل شخص، ونتمسك بذلك الشخص من أجل الجمهورية. وإذا قيل: أليس في البلاد من ينهض بهذا الأمر؟ قلت: بلى إن النبوغ السوري لا ينضب، وأذهب إلى أبعد من ذلك فأزعم أن سورية المنجبة تستطيع أن تنبت من رمال العاصي ومن حصى بردى ساسة وقادة للبلاد العربية. ولكن للرئاسات مقدمات. ونحن في ظروف تاريخية على غاية من الدقة والخطورة لا نستطيع معها أن نغامر في اختيار رجل ينهض بهذا الأمر، لأن في سورية مشاكل تكفيها من بناء وتشييد وتكوين أمة. إن رئيسنا الحالي ليس كبعض رؤساء الجمهوريات الآخرين، وإنما هو مؤسس دولة ومنشئ عهد. وإنه ليقابل في ذلك بجورج واشنطن العظيم الذي انتخب أول رئيس للجمهورية الأمريكية وأعيد انتخابه ثانية، ثم تقدّم شيوخ أمريكا ونوابها ليسموه رئيساً للمرة الثالثة فاعتذر ورفض.
أيها السادة: في غربي أوربا قول مأثور مفاده أن الجمهوريات قليلٌ وفاءها كثير نسيانها. ولكنّ قومنا العرب عرفوا بالوفاء وعرفان الجميل، وهذه الفرصة متاحة للدولة السورية بأن تكون جمهورية وفيّة عرباء.

النائب الدكتور أديب نصور:نعم، إننا نعدّل الدستور لأجل شخص

سيل من برقيات التهنئة قبل الانتخاب

إن أكثر ما يثير الدهشة في موضوع تعديل الدستور في عهد الرئيس شكري القوتلي أن هذا التعديل شمل مادة من الدستور تتعلق بانتخاب الرئيس لولاية ثانية، ولكن هذا التعديل لا يعني التمديد له، لأن هناك جلسة انتخاب قادمة ستحدد إذا ما كان المجلس سينتخب الرئيس مرة ثانية أم لا. ولكن كلمات نواب “الأمة” في جلسة التعديل والبرقيات التي انهالت على مجلس النواب كالسيل الجارف والتي شملت كل شرائح الشعب ومؤسسات الدولة وجميع المدن والمحافظات، كلها كانت تستبق وضعاً قانونياً بما يؤكد أن تعديل الدستور في مجلس النواب ومن خلفهم الشعب الذي انتخبهم ممثلين عنهم جاء من أجل القوتلي وتفصيلاً على قياسه، للدرجة التي تجعلهم يهنئون الرئيس قبل انتخابه، وكأن الأمر ليس انتخاباً ينتظر الشعب معرفة نتائجه بل كان “تجديداً للبيعة” للرئيس، وهو اللفظ الذي ورد في برقيات التهنئة وفي عناوين الصحف بعد التعديل.


موضوعات عن الرئيس شكري القوتلي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى