محطات تاريخية

ذكريات خالد العظم في سجن النحلاوي

ذكريات خالد العظم في سجن النحلاوي – عندما جمع النحلاوي خمسة رؤساء وزراء سوريين في “قاووش” واحد

لا تحظى هذه الصفحات الضائعة بين ثنايا مذكرات رئيس الوزراء السوري الراحل خالد العظم بشهرة غيرها من الأحداث التي دونها في مذكراته الطويلة والتي جمعها في ثلاثة مجلدات، على الرغم من أهميتها والدلالة العميقة لأحداثها.

يروي خالد العظم تفاصيل الأحداث التي سبقت انقلاب النحلاوي في 28 آذار عام 1962 ( بعد ستة أشهر من قيامه بانقلابه الأول في 28 أيلول 1961 الذي أدى إلى انفصام الوحدة بين مصر وسورية وعرف باسم الانفصال). ثم يسرد ذكرياته في سجن المزة مع زملاء الاعتقال من رؤساء حكومات ووزراء ونواب.

عشية انقلاب النحلاوي

“دُعيت مساء 27 آذار إلى دار الضيافة لمقابلة رئيس الجمهورية، فوجدت عنده الكزبري والدواليبي والعسلي والحوراني والغزي. وبدأ الرئيس الحديث قائلاً بأن الجيش ثائر ضد القانونين اللذين أصدرهما مجلس النواب (بشأن التأميم وبشأن الإصلاح الزراعي)، وبأنه يطلب العودة إلى الأحكام السابقة. فسألناه: هل هذا كل ما يريد؟ فأجاب: لا. إنه يريد إبعاد الوزارة الحالية عن الحكم (وكانت قد استقالت)، ويصر على أن يستقيل من النيابة بعض الشخصيات. وقد أعلمنا سعيد الغزي بأنه اطلع على جدول غير المرغوب فيهم من النواب، وهم الكزبري والدواليبي والعسلي وأنا وسوانا، وأن ثمّة مطالب أخرى تتعلق بصميم الدستور. ثم أخرج من جيبه ورقة كبيرة الحجم وأشار إليها، لكنه لم يطلعنا على فحواها.
وعدنا إلى الندوة النيابية، فجمعنا النواب في قاعة المجلس، لكن بشكل غير رسمي. وبينما كنا نستمع إلى آراء الرفاق، وصلت إلينا دعوة من الدكتور ناظم القدسي إلى الحضور مرة ثانية إلى دار الضيافة مع العسلي والحوراني. فاعتذرنا من الحاضرين وسرنا في طريقنا. ولم نكد نجلس مع الرئيس، حتى وصل على أعقابنا وفد قوامه رشاد جبري ودهام الهادي وعصام العطار وأحمد عبد الكريم وبعض النواب الآخرين. فاضطرب الرئيس للوهلة الأولى، وقال لا يسعني استقبالهم. غير أن الكزبري رجاه بأن لا يردهم على أعقابهم، ثم ذهب إليهم وعاد قائلاً بأنهم يصرون على حضور هذا الاجتماع. فما كان من القدسي إلا أن استدعاهم. فجاؤوا وجلسوا معنا وتكلم الجميع، ما عداي، بما لا يخرج عن حديث الجلسة السابقة.

ثم خرجنا وتركنا الحاضرين عند الرئيس. وقد علمت فيما بعد أن المجتمعين اتفقوا مع رئيس الجمهورية على قبول طلبات الجيش، وأنهم فوضوه بتأليف حكومة جديدة، ثم انسحبوا من الجلسة. فما كان من الرئيس سوى تكليف السيد سعيد الغزي بتأليف الوزارة فوراً. فأخذ هو وبرمدا والدقر باختيار الوزراء الجدد. وظلوا هكذا حتى الساعة الواحدة. وتولّى برمدا حمل أسماء الوزارة لكي تنشر في الساعة السابعة صباحاً.

اعتقال خالد العظم مع الوزراء والنواب

عندما استلقيت على فراشي، بعد عودتي من قصر الضيافة، لم يخطر ببالي أن الأمور آخذة بالتطور بهذه السرعة، وأن الانقلاب الذي كان أعدّ له العقيد النحلاوي بدئ بتنفيذه في منتهى الدقة. وبينما كنت غارقاً في النوم أيقظتني الخادمة وقالت لي بأن ضابطاً يريد مقابلتك. فقلت في نفسي: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وأدركت على الفور أن الانقلاب حصل وأن الضابط جاء لتوقيفي وأخذي إلى المزة. فقمت من فراشي وذهبت إليه حيث كان واقفاً خلف الباب الخارجي، فسألته بعد التحية عما يريد، فقال بكل تأديب وتواضع أن ثمة اجتماعاً معقوداً في الأركان العامة للجيش، ورجا مني تلبية دعوة اللواء لحضوره فوراً. فأيقنت أن الأمر كما توقعت لأنه من غير المعقول أن يعقد اجتماع في الساعة الثانية والنصف صباحاً. فقلت للضابط: “اصدقني القول، إذ يلوح لي أن ثمّة انقلاباً، وأنك آت لأخذي إلى المزة”. فراح يفرك يديه ويقول: “أعوذ بالله، يا دولة البيك، فالأمر لا يخرج عما قلت. أرجوك” فقلت: “طيب، لكن ليس لدي سيارة الآن”، فأجاب بأن معه سيارة، وهي تحت أمري! ولم تنطلِ علىّ الأكذوبة. وقلت له: “على أي حال، سألبس ثيابي وآتيك حالاً”.
وعدت إلى غرفتي وأخذت بارتداء ثيابي، دون استعجال أو تطويل. ثم نزلنا الدرج معاً، فلما وصلنا إلى الشارع رأيت أمام البيت سيارة شحن وعدداً من شرطة الجيش، فتأكد حدسي. وابتسمت للضابط، وهززت برأسي، فراح يحاول أن يتوارى عن نظري. وأركبوني إلى جانب السائق، وجلس ضابط إلى يميني. وسارت بنا القافلة حتى قيادة الشرطة العسكرية، فنزلت وانتظرت في الساحة، دون أن أنبس يبنت شفة، منتظراً النهاية.

وخرج من إحدى الغرف السيد لطفي الحفّار، فحيّاني ووقف إلى جانبي. وبعد هنيهة دعُونا إلى ركوب سيارة جيب. وكان البرد شديداً تلك الليلة، وكانت الريح تدخل إلينا من خلال الثقوب والشبابيك المفتوحة. ولف الحفار رأسه بالعباءة ليتقي لفحة البرد على رأسه العاري. أما أنا، فكنت ألبس رداء سميكاً وطاقية من الفرو حمت رأسي من البرد القارس. وأسرعت بنا السيارة إلى سجن المزة، فدخلناه للمرة الثانية بعد انقلاب حسني الزعيم. وهناك اقتادونا إلى قاعة كبيرة وجدنا فيها عدداً وفيراً من رفاقنا في المجلس، من نواب ووزراء. فعانقنا بعضنا بعضاً والابتسامة تعلو شفة كل واحد منّا. ثم انقلبت تلك الابتسامات إلى ضحكات عالية، صرنا نطلقها كلما دخل رفيق جديد. وكان الحراس يطلبون من كل داخل تسليم جميع ما في جيوبه، فيعدون النقد ويسجلونه، ثم يطلبون تسليمهم أيضاً ربطة العنق والحزام وحتى ربطة الحذاء. وكانوا يتأكدون من أننا لا نخفي سلاحاً نارياً أو خنجراً أو موسى، وذلك بتفتيش جيوبنا وتحرّي ما تحت ثيابنا وداخل سراويلنا.

كانت النكات والحكايات الطريفة تطلق على أكثر الألسنة، فتتردد أصداء الضحك والقهقهات. وكان حراسنا الأربعة ينظرون إلينا كما ينظر الممرضون إلى مرضاهم من المجانين.

وكانت القاعة فسيحة، طولها نحو 15 متراً، وعرضها نحو ستة أمتار. يجتازها طولاً ممر واطئ ينتهي إلى غرفة صغيرة، فيها مستراح وحنفية ماء. وكانت الأرض مفروشة بالشمينتو وعليها بعض الأفرشة المملوءة حصيراً. فجاؤونا بأغطية صوفية ووزعوها علينا بمعدل غطاء واحد لكل سجين. واضطررنا إلى الالتحاف بها بسبب البرد القارس. والغريب أن أحداً منا لم يبد منه استغراب أو احتجاج، كأننا كلنا كنا متوقعين ما حدث. بل كانت النكات والحكايات الطريفة تطلق على أكثر الألسنة، فتتردد أصداء الضحك والقهقهات. وكان حراسنا الأربعة ينظرون إلينا كما ينظر الممرضون إلى مرضاهم من المجانين.

النحلاوي يطلب استقالة خطية من رئيس مجلس النواب

فُتح الباب، ودخل رقيب طلب إلى الكزبري مرافقته. وخشينا عليه أن يصيبه بسوء، لكنه قام من فراشه مبتسماً وتبع الرقيب، ورحنا نفكر في سبب هذه الدعوة.
وبعد ربع ساعة عاد إلينا زميلنا، فاستقبلناه بالهتاف. وقال لنا إنهم طلبوا إليه أن يكتب استقالته من رئاسة المجلس، ففعل. فقلنا: “بسيطة”. لكنهم ما لبثوا أن أعادوا عليه الكرّة واستدعوه ثانية، فانشغل بالنا هذه المرة. لكنه عاد بعد قليل وأنبأنا بأنهم طلبوا إليه تغيير كتاب استقالته بأن يجعله موجهاً إلى قائد الجيش بدلاً من مجلس النواب، فامتثل أيضاً وعاد سالماً. فأعدنا عليه التهاني، فيما ظهر لنا أن الأمر على شيء من “الولدنة”.

البلاغ رقم 26

وما لبث المذياع أن بدأ بإسماعنا قطعات من الموسيقى العسكرية، فتهيأنا لسماع أول بلاغ. وما طال انتظارنا، إذ سرعان ما سمعنا أن قيادة الجيش قامت بحركة وطنية! (وكل هذه الحركات وطنية بطيبعة الحال) واستولت على الحكم وأنقذت البلاد من شرور الرجعية الاستعمارية العميلة، إلى آخر النغمة إياها، وأنّ بلاغات سوف تذاع على التوالي.

ثم أُعلن حل مجلس النواب، واستقالة رئيس الجمهورية، واعتقال أعضاء الوزارة وفريق من النواب، وقرب إحالتهم على القضاء وإعادة الأوضاع السليمة.
وكنّا نتساءل ما إذا كانت الحركة ناصرية أو عسكرية محلية فحسب، لأن البلاغات كانت غامضةمن هذه الناحية، بعكس ما كانت تردده صراحة من أن النواب ألغوا الإصلاح الزراعي والتأميم وزادوا رواتبهم واستحصلوا على رخص استيراد سيارات خاصة بهم، وأن الوزراء استغلوا وظيفتهم بالارتشاء وببذل الخدمات لأنصارهم لكسب الشعبية الرخيصة، إلى آخر ما هنالك من التهم المختلفة.

النحلاوي يجمع كل أركان الدولة في سجن واحد

وكان عدد الموقوفين في قاعتنا خمسة وثلاثين شخصاً، خمسة منهم تولوا سابقاً رئاسة الوزارة، وهم الكزبري والدواليبي والعسلي ولطفي الحفار وأنا. وكان بينهم جميع الوزراء في وزارة الدواليبي، باستثناء رشاد برمدا، وهم جلال السيد ورشيد الدقر ومحمد عابدين وسهيل الخوري وعبد الرحمن الهندي وأحمد قنبر وبكري القباني وعدنان قوتلي وفؤاد العادل ومصطفى الزرقا وأحمد علي كامل ومحمد الشواف ومحمود العظم ونعوم السيوفي. أما من النواب فكان بينهم فيضي الأتاسي وسعيد تلاوي وعبد الكريم دندش وعوض بركات وزياد إسماعيل وعادل العجلاني وحنين صحناوي.
وأما الموقوفون من غير النواب فكانوا قلة. ثم زاد عددنا بمجيء السيد رشدي الكيخيا، رغم أنه كان قد طلّق السياسة منذ 1958، ولم يقبل ترشيح نفسه في 1961، لا للنيابة ولا لرئاسة الجمهورية.

خالد العظم ممنوع من حقنة الأنسولين

دخل علينا فرد من الجنود، فسحبوا الحرامات عنا وطلبوا أفرشة القش، فاعترضنا فطيبوا خاطرنا وقالوا إنهم سينقلوننا إلى مكان أفضل. فأوجسنا خيفة من أن تكون المآوي الجديدة في السلولات، أو الغرف المنفردة. وسكتت أصوات الضحك.
وعندما جاء دوري وستة من الرفاق، ودعنا الباقين ولحقنا بالنقيب، فقادنا في ممرات طويلة يقطعها سلالم عديدة، نزلنا بعضها وصعدنا البعض الآخر، حتى وصلنا إلى ممر طويل فيه أبواب ثلاثة دخلنا أحدها. وإذ بنا ضمن غرفة لا يتجاوز طولها وعرضها ثلاثة أمتار بثلاثة. وكان للغرفة طاقة صغيرة عالية لم يسمح لنا بفتحها، وباب أغلقوه علينا وأقفلوه.
ووجدنا أنفسنا في الغرفة: معروف الدواليبي ومصطفى الزرقا وعلي أحمد كامل ورشيد الدقر ومحمد عابدين من الوزراء، وحنين الصحناوي وأنا من النواب.
وقرب الساعة العاشرة، فتح الباب، ودفعوا لنا بإبريق شاي وكاسات من الصفيح، وبقطعة من الخبز مع كمية من الزيتون. وتوزعناها، فكان نصيب كل واحد منا خمس زيتونات. وقرب الساعة الثانية بعد الظهر فتح الباب، ودخل نقيب ومعه سبعة صحون من الصفيح مليئة بالمرق والخضار، ومثلها مليئة بالأرز مع كمية من الخبز. ولما سألناه عن الملاعق أو الشوكات، أجاب بأنها ممنوعة. واحترنا كيف نتناول غداءنا، أبالأصابع؟ أليس بذلك رجعة إلى العصور السالفة وابتعاد عن التقدمية؟

كان عدد الموقوفين في قاعتنا خمسة وثلاثين شخصاً، خمسة منهم تولوا سابقاً رئاسة الوزارة، وهم الكزبري والدواليبي والعسلي ولطفي الحفار وأنا. وكان بينهم جميع الوزراء في وزارة الدواليبي، باستثناء رشاد برمدا.

وفي المساء تكرر الأمر. والتزمنا الصيام إلا عن الخبز والبيض المسلوق والزيتون. وكنت غير متضايق من حرماني من الأكل، لأنني كنت محروماً من الأنسولين الذي أستعمل كل صباح زرقة منه لمعالجة مرض السكري. غير أن نظام الأكل هذا لم يحل دون ارتفاع السكر في دمي، فأصابتني نوبة من الرجفان العصبي مع البكاء الذي لا سبب له إلا تخرش الأعصاب التي تسيطر على هذا الانفعال. فضج رفاقي وراحوا يطرقون على الباب بأيديهم بعنف ويصرخون بأعلى أصواتهم: طبيب .. طبيب. خالد بك يعاني أزمة حادة. فعلا الضجيج من الغرف الأربع الأخرى المليئة برفاقنا. وهرع الحراس ومعهم الضابط مدير السجن، فسألوني عما بي فلم أجب. وقال لهم رفاقنا: أنتم تقتلون هذا الرجل بمنعه من استعمال علاجه. فظهر على وجه الضابط علائم التأثر والتخوف من أن يصيبني مكروه داخل السجن، فهتف لرؤسائه، فجاء طبيب وفحصني وأشار بضرورة إعطائي فوراً زرقة من الأنسولين. ولمّا قيل له إني لا آكل، خرج عابساً.

وفي المساء بينما كنّا مضطجعين على فراشنا الوثير! فتح الباب فجأة وطلب الحارس من رفيقنا الصحناوي أن يلحق به. فقام صديقنا وسار يتمايل يساراً ويميناً وهو لا يعلم إلى أين يقودونه. فطمأناه بأنه ذاهب إلى داره. وكانت لحظات محزنة حقاً. وكان رفيقنا غير معتاد على حياة التقشف، ولا دخل في حياته سجناً، ولا قيدت حريته، ولا نام إلا على الأسرّة الوثيرة حقاً، ولا تناول الطعام وهو جالس القرفصاء، بصحون من الصفيح، ودون ملاعق وشوكات، ولا حرم من المشروبات الروحية ولا من السيكارات. وكان جسمه، إلى ذلك، نحيلاً بحيث أن عظامه كانت تلامس الأرض الخشنة وهو جالس أو مضطجع دون أن تخفف عنه الألم طبقة من اللحم والشحم. كان سرورنا عظيماً بخروجه من السجن، رغم حرماننا من رفيق أنيس. وتعانقنا، ثم أوصاه كل منا بأن يبلغ عائلته أنه لا يزال حياً، وأن يصف لها حالتنا المادية السيئة التي لم تؤثر على قوة معنوياتنا.

كنت محروماً من الأنسولين الذي أَستعملُ كل صباح زرقة منه لمعالجة مرض السكري، فأصابتني نوبة من الرجفان العصبي مع البكاء الذي لا سبب له إلا تخرش الأعصاب التي تسيطر على هذا الانفعال. فضج رفاقي وراحوا يطرقون على الباب بأيديهم بعنف ويصرخون بأعلى أصواتهم: طبيب .. طبيب. خالد بك يعاني أزمة حادة. أنتم تقتلون الرجل بمنعه من استعمال علاجه.

وفي الصباح، جاء أحد ممرضي المستشفى العسكري ومعه كيس مملوء بالأدوية المرسلة إليّ من داري، بينها زرقات الأنسولين، وحقيبة صغيرة فيها ثياب داخلية وزجاجة ماء كولونيا كان لوصولها الأثر المنعش عند الرفاق.
وجاءنا من يسأل: هل توافقون على استجلاب طعامكم مشتركاً من مطعم نادي الشرق؟ فرحبنا بالفكرة. وبدأت “السفر طاسات” ترد علينا كل يوم. وهكذا عدنا إلى حياة الشباب والتلمذة، بعد أن أشرفنا على الستين، وصعدنا إلى ذروة المراكز.

وبدأت منذ اليوم الثالث تخف تدريجياً المعاملة القاسية التي لقيناها في الأيام الأولى. فسمح لنا بالخروج سوية إلى باحة التنفس وصرنا أحراراً في التكلم بعضنا مع البعض الآخر. أما أعضاء الشركة الخماسية الموقوفون في إحدى الغرف الملاصقة لغرفتنا، فلم يسمح لهم بالاجتماع معنا ولا بالتحدث إلينا إطلاقاً. ثم جيء بأسرّة حديدية ذات طبقتين، فخصص لكل واحد منا سرير يبعد عنا على الأقل رطوبة الأرض.
وكان أشد ما يضايقنا أنه لم يكن يسمح لنا بالخروج إلى دورة المياه إلا بالدور، مهما كانت الحاجة ماسة إلى الإسراع بالوصول إليها، سواء عن مرض كمرض السكري أو بنتيجة أزمة في المصارين!
وقد اتخذت كرسياً لاستعماله في دورة المياه، من الكراسي القش الواطئة التي أجيز لنا شراؤها.

انقلب السحر على الساحر، والنحلاوي أول ضحايا انقلابه الدموي

ثم تحلحلت القيود، فأجيز لنا جلب “ترانزستور” الذي أصبح صلة الوصل الوحيدة بيننا وبين العالم. كنا نستمع إلى الأخبار والبلاغات. وأشد ما أثار انتباهنا ذات يوم ما أذيع من نداءات إلى حامية حلب بالتزام الهدوء وبعدم الاسترسال في ما يعرض البلاد للخطر. وكان كل ذلك مدعوماً بمارشات عسكرية طيلة النهار والليل. فتحقق لدينا أن شيئاً ما حدث، فأقلق سادة دمشق الجدد. لكننا لم نهتد إلى حقيقة ما جرى. فصرنا نترقب الحوادث ورؤوسنا مجتمعة حول الترانزستور. حتى كان يوم فهمنا فيه أن عصياناً عسكرياً قام بحلب، عقب مؤتمر عقد بحمص، أُبعدت بموجب قراراته الشخصيات العسكرية التي قامت في دمشق بانقلاب 28 آذار.

وهكذا أبعد النحلاوي والهندي والرفاعي ورفاقهم وأركبوا طائرة نقلتهم إلى سويسرا. وتناهى إلينا أن الوضع أشبه ما يكون بحرب داخلية بين جماعة دمشق الجدد وجماعة حلب الذين احتلوا المدينة والمعسكرات ورفعوا علم الوحدة وصور عبد الناصر، وأن الطائرات العسكرية الموالية لقيادة دمشق قصفت محطة الإذاعة في حلب وسواها من الأبنية، وأن ثمّة قتلى وجرحى من الضباط. فبلغ بنا التأثر مداه، وهلعنا لتأزم الحال على هذا النحو. وخشينا أن تنتهز إسرائيل فرصة اصطدام الجيش السوري، بقطعاته المختلفة، لتدخل البلاد وتفرض عليها خطة جديدة.

عبد-الكريم-النحلاوي
عبد الكريم النحلاوي أول ضحايا انقلابه الفاشل الذي أنهى حياته العسكرية وقضى على طموحه في الحكم وزاد تعقيد المشهد ومهّد لانقلاب البعث في العام التالي

خالد العظم ورفاقه يناشدون القيادة الجديدة باسم الوطن

وحررتُ كتاباً وقّعه جميع الرفاق المسجونين، موجهاً إلى القيادة العامة، ناشدناهم فيه باسم الوطن ألا يجعلوه يتمزق، وأعلنّا عن استعدادنا للإسهام في ما يؤدي إلى رتق الفتق. كما طلبنا إرسال ضابط للتحدث معه. ولم يشأ رئيس الحرس استلام رسالتنا المكتوبة، لكنه وعد بنقل مضمونها شفاهاً. إلا أننا لم نتلقّ أي جواب!

حوادث وطرائف

وارتخت القيود أكثر فأكثر، فبدأ كل منا يستقبل أهله وأصدقاءه الذين سمح لهم بهذه الزيارات، على شرط أن يحضر رئيس الحرس المقابلات. وبذلك انتفت إمكانية استطلاع الأخبار إلا القليل.
وحدثت لزميلنا الأستاذ مصطفى الزرقا حادثة طريفة. وهي أنه ذات يوم دعي للنزول إلى غرفة رئيس الحرس لمقابلة أحد الزوار. ولما عاد بعد مدة قصيرة، كان وجهه شاحباً. وأخبرنا بما حدث معه، وهو أن الزائر ناوله علبة سكاكر ووضع في يده بخفّة ورقة صغيرة مطوية، ظاناً أن رئيس الحرس، بوقوفه إلى جانب النافذة، لا يعير انتباهاً لما يجري في الغرفة. لكن سرعان ما التفت الضابط وأمسك بيد الزرقا وعمل على أخذ الورقة منه. لكن الزائر كان أسرع منه، فخطف الورقة ووضعها في فمه وعلكها ثم بلعها. فألقي القبض على الزائر، وأعيد الزرقا إلينا. ثم صار يتساءل عما كانت تحويه تلك الورقة، وعما سيكون نصيب الزائر من العقاب. وقد اضطربنا كلنا وخشينا أن يلحق بالزرقا ورفيقه سوء، أقلُّه عزل الزرقا عنا وإلقاؤه في سجن منفرد ليذوق على الأقل عذاب الوحدة والانفراد. لكن الله لطف به، فلم تتبع هذه الحادثة أية ذيول.

والحادث الطريف الآخر، هو أنه بينما كان زميلنا معروف الدواليبي جالساً على الكرسي مستسلماً للحلاق الذي خصصوه لجميع المعتقلين، وهو زميل لهم في الاعتقال بسبب حادث أخلاقي، راح الحلاق يجر موساه على جانبي لحية الدواليبي الصغيرة، معطياً انتباهه لما كنا نتداوله عن نتائج الحوادث الأخيرة. وفجأت زالت لحية الدواليبي من الوجود. وصرخ الحلاق معتذراً. فالتفتنا، فإذ ا بصديقنا حليق الذقن يلحمس على الشعيرات القليلة التي نجت من الموس، فضحكنا وضحك الدواليبي معنا، وهنّأناه بأن موسى الحلاق لم تصل إلى حنجرته.

وكان صديقنا الزرقا يلح على الحراس في جلب آلات الحلاقة الثلاث التي يستعملها لتنظيم لحيته. وكان يقضي الساعات في تجميلها كأنه ذاهب إلى عرسه.

الرئيس ناظم القدسي معتقل

وبلغَنا أن رئيس الجمهورية الدكتور ناظم القدسي معتقل في المستشفى العسكري، وأن طلبه الانتقال إلى حيث كنا للخلاص من وحشة الوحدة لم يستجب، فبقي معزولا وحيداً. وكانت الأحاديث بين المعتقلين تدور على ما ليس في صالحه. وبدأت تتبلور فكرة بينهم بأنه مسؤول في الدرجة الأولى عما حدث، وأنه لو لم يستأثر برغبة حل المشاكل بنفسه، دون استشارة أحد من النواب، ويمنع وزراءه من إفشاء ما يسمعونه في الاجتماعات التي كانوا يعقدونها مع القيادة العسكرية، لما كانت الأمور وصلت إلى هذا الحد من السوء والفوضى.

موقف الخنوع عند الشعب والزعماء

أما الشعب، وأما الزعماء رفاقنا، سواء من صفّنا أو من الصف الآخر، فكانوا يقفون مما يجري موقف المتفرج، كأنما لا يصيبهم سوء ولا يلحقهم مكروه. فأين أولئك الذين هتفوا وملؤوا الدنيا بأصوات ارتياحهم يوم قام الجيش بقطع الصلة التي كانت تربطنا مع مصر؟ وأين أولئك الذين انتخبونا وبعثوا بنا إلى مجلس النواب لندفع عن البلاد خطر العودة إلى الماضي، ولنبني كياننا الجديد على قواعد متينة؟ وأين من كانوا يسيرون في الشوارع هاتفين بأسمائنا، تسير عراضاتهم فيها وخطيبهم محمول على الأعناق يردد الشعارات الحماسية المألوفة.

والحقيقة أنني لا أدري سبب هذا التراخي والتواكل والخنوع، ولا أجد له تفسيراً معقولاً إلا الانحلال واليأس وفقدان التنظيم الشعبي الذي كان الزعماء أتقنوه حين كانوا يقفون تجاه الجيش الإفرنسي الأجنبي.

الخروج من السجن

وقبيل خروجي من المزة أصبت بأزمة عصبية وقلبية بسبب استمرار الاعتقال وفقدان الحرية، لا سيما إغلاق باب الغرفة. وصرت كلما قابلت عائلتي لدى رئيس الحرس تنهمر دموعي وترتجف أطرافي، دون أن أقدر على التغلب على هذا الاندفاع. فعملت زوجتي كل ما استطاعت من اتصالات، واستدعت أطبائي للكشف علي وإعطاء تقرير طبي بعدم جواز استمرار الاعتقال، خشية من العواقب الخطيرة. وتكللت تشبثاتها بالنجاح، فجاءت مساء العاشر من نيسان إلى رئيس الحرس وسلمته أمراً بإطلاق سراحي.
والتزمت داري أو بالأحرى سريري، إذ كانت أعصابي متوترة إلى حد كبير. واعتذرت عن قبول أية زيارة. وكانت تصل إلى علمي أن المفاوضات مع ناظم القدسي انتهت إلى إمكان عودته إلى رئاسة الجمهورية، على أن يؤلف حكومة على نقيض اتجاه الحكومة السابقة، وعلى أن يستقيل النواب.

وبالفعل بدأ بعضهم بالسعي للحصول على توقيع النواب على عريضة الاستقالة، فوقعها المعتقلون كلهم بشرط إنهاء سجنهم، ما عدا نائب حلب ليون زمريا الذي آثر البقاء في المزة على الرضوخ لهذه الاستقالة الجبرية. أما أنا، فلم أقبل الاجتماع ببعض النواب الذين جاؤوا للحصول على توقيعي.
ثم فتحت أبواب السجن بالتدريج، فلم يبق فيه لمدة طويلة سوى مأمون الكزبري وعبد الكريم دندش.

وفي الثالث عشر من نيسان عاد القدسي إلى تسلّم عمله كرئيس للجمهورية. وألقى بياناً أذيع في الصحف والراديو لمّح فيه إلى الوحدة ببعض فقرات غامضة. ثم بدأ بتأليف الوزارة، فاستدعى بشير العظمة، وكان وزيراً مركزياً في أواخر عهد الوحدة.



شاهد أيضاً

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى