الجاسوس فرحان الأتاسي .. من هو، ولماذا أعدم، وما علاقته بإيلي كوهين؟
في تشرين الثاني عام 2011 وصلت رسالة باللغة الإنجليزية على البريد الإلكتروني لموقع الجاسوس الإسرائيلي إيلي كوهين بعنوان “لقاء الأقارب” تقول: “اسمي جرير الأتاسي. عمري 48 عاماً، لا أعرف إن كنتَ تعلم بأن أبي شُنق في الساحة نفسها التي شنق فيها أخوك إيلي، حيث أعدم قبله بثلاثة أشهر”.
يقول ألبرت أبراهام كوهين الشقيق الأصغر لإيلي كوهين والذي يدير الموقع الإلكتروني لأخيه الجاسوس الإسرائيلي الأشهر (يصغره بخمسة عشر عاماً، وهو غير شقيقه الآخر موريس الذي كان يعمل في الموساد أيضاً ويصغر إيلي بثلاثة أعوام): “كنت أعلم بقضية فرحان الأتاسي والمقدم في الجيش السوري عبد المعين الحاكمي. وكان لدي شعور بأن هناك علاقة تربط قضيتهما بقضية أخي إيلي، ولكنني لم أتمكن قبل وصول هذه الرسالة من إثبات ذلك”.
فمن هو فرحان الأتاسي
ولد فرحان الأتاسي في حمص عام 1928. وهو ينتمي لعائلة الأتاسي المعروفة ذات الأصول التركمانية. فوالده هو عبد الهادي الأتاسي شقيق الرئيس السوري الأسبق هاشم الأتاسي. ووالدته هي شهدية بنت سليم الأتاسي. وهو ابن عم الوزير فيضي الأتاسي وابن عم العقيد فيصل الأتاسي الذي نفذ الانقلاب على الرئيس أديب الشيشكلي.
نشأ فرحان الأتاسي في حمص وتلقى تعليمه فيها. هاجر عام 1951 إلى الولايات المتحدة لإكمال دراسته، وهناك ارتبط بـ جوان غانم وهي أمريكية مارونية من أصل لبناني، ورزق منها بولد (جرير) وبنت (سوزان)، وحصل من خلالها على الجنسية الأمريكية.
عاد فرحان إلى سورية عام 1959 بصفة ممثل لشركة أفلام يونايتد أرتيست، وأقام في جادة شكيب أرسلان بحي أبو رمانة بدمشق.
الاتصال بالسفارة الأمريكية
في عام 1963 كلف فرحان الأتاسي عبر والتر سنودن السكرتير الثاني في السفارة الأمريكية بدمشق بالحصول على ذخائر مضادة للطيران. وتشير إحدى وثائق السفارة البريطانية في دمشق برقم 1011/65 بتاريخ 23 شباط 1965 إلى أن “الهدف الاستخباري الرئيسي من العملية كان على الأغلب هو الصواريخ السوفييتية الموجهة التي كانت تزود بها الزوارق الحربية السورية، وإن كانت المحكمة قد أشارت إلى اهتمام السيد سنودن بطائرات ميغ التي يستخدمها الجيش السوري، وبمدفع معيّن والذخائر المستخدمة فيه. (كانت عينات الذخيرة مطلوبة للاستدلال على الإنتاج السوفيتي من أرقامها التسلسلية)”.
اتصل فرحان بقريبه عبد المعين الحاكمي وأخبره برغبة الحكومة الأمريكية بالحصول على هذه المعلومات والذخائر مقابل ألف دولار لكل طلقة.
وبحسب محاضر المحكمة العسكرية التي أقيمت للمتهمين في هذه القضية فقد أعطى فرحان قريبه الحاكمي مبلغ عشرة آلاف ليرة سورية كسلفة لبدء هذه المهمة التجسسية. وبعد فترة قصيرة طلب عبد المعين الحاكمي (الذي كان ضابطاً في اللواء العاشر للمشاة في اللاذقية) من فرحان الحضور إلى اللاذقية وسلمه إحدى عشرة طلقة وبعض الكراسات الخاصة بالأسلحة المضادة للطيران.
استدعي فرحان الأتاسي بعد ذلك إلى الولايات المتحدة لتلقي دورة تدريبية على بعض الأساليب الجاسوسية المتعلقة بنقل الرسائل وإخفاء الأفلام وطرق المراسلة بين العملاء.
وفي تشرين الثاني عام 1963 استدعى سنودن فرحان الأتاسي إلى السفارة وأخبره بوجود معلومات عن سلاح جديد تملكه البحرية السورية وكلفه بمعرفة أسرار هذا السلاح، ووعده بمبلغ 50 ألف دولار لقاء هذه المهمة (هذا المبلغ سيؤكده شخص آخر في قضية أخرى لاحقاً). وطلب سنودن من فرحان الاتصال بإحدى الموظفات في السفارة الأمريكية وتدعى (مارثا) في حال غيابه.
كان المقدم عبد المعين الحاكمي بحاجة إلى ضابط بحري ليتمكن من الحصول على المعلومات الجديدة المطلوبة، فاتصل بالرائد البحري نزيه سويد. كان الحاكمي في البداية يلمح لحاجة سلاح المشاة لتوسيع ثقافته العسكرية عن سلاح البحرية. ثم طلب من زميله إلقاء محاضرة عن كيفية إجراء عملية ضد إنزال بحري معاد بالتعاون بين وحدات القوى البحرية والوحدات البرية. ثم اقترح عمل زيارة لوحدات القوى البحرية للتعرف على مختلف الأسلحة. وبعد مدة من الزمن لم يكن هناك سبيل سوى أن يصرح عبد المعين الحاكمي بغايته، فاجتمع بصديقه في نادي الضباط في 10 تموز 1964 وصارحه بأنه مكلف بالحصول على معلومات عن سلاح البحرية مقابل مبلغ كبير من المال. تظاهر الرائد سويد بالموافقة، ثم اتصل برئيس أركان القوى البحرية المقدم عبدو الديري، وهو عضو في مجلس قيادة الثورة الذي كان يحكم سورية في ذلك الوقت. طلب الديري من نزيه سويد مرافقته إلى دمشق للإدلاء بهذه المعلومات أمام القيادة. وطُلب منه استمرار العمل مع هذه الشبكة بمساعدة الملازم الأول مطيع الرجوب لحين الإيقاع بهم.
المحاكمة
استدرج الحاكمي حتى ألقي القبض عليه وعلى ابن خالته فرحان.
كان فرحان الأتاسي في ذلك الوقت قد بدأ إجراءات التخلي عن الجنسية السورية، ولكن بقي عليه الحصول على الموافقة النهائية من رئيس الدولة. ولذلك فقد حوكم كمواطن سوري وليس كجاسوس أجنبي.
أنشئت محكمة عسكرية استثنائية في 15 شباط 1965 بناء على المذكرة المؤرخة في 12 كانون الثاني 1965 المتضمنة إقدام المتهمَين:
1- المقدم عبد المعين بن عبد الوهاب الحاكمي
2- المدني فرحان بن عبد الهادي الأتاسي
على ارتكاب جناية إفشاء معلومات عسكرية والتجسس المنصوص عنه بأحكام المادتين (271 و 272) من قانون العقوبات.
تألفت المحكمة من:
المقدم صلاح الدين الضللي رئيساً
الرائد محمد رباح الطويل عضواً
الرائد سليم حاطوم عضواً
النقيب خالد رسلان عضواً
النقيب محمود حمرا عضواً
الموظف المدني مروان صباغ كاتب ضبط.
اجتمعت المحكمة العسكرية صباح 20 شباط 1965، وبعد الاستماع إلى أقوال المتهمين، وبالاطلاع على وقائع القضية التي تأيدت بالأدلة التالية (بحسب ما جاء في تقرير المحكمة):
1- بالتقارير الخطية المدونة بيد المتهمين المحفوظة في الأضبارة.
2- باعترافات المتهمين الصريحة أثناء التحقيق الفوري.
3- باعتراف المتهمين الصريحة أثناء المحاكمة الجارية والتي جاءت مؤيدة لاعترافهما أثناء التحقيق الفوري.
4- بالأحاديث الجارية بين المتهم عبد المعين وصديقه البحار المسجلة على أشرطة تسجيل.
5- بالمبالغ المصادرة بحوزة المتهم عبد المعين.
6- بإفادة الشاهدين الرائد نزيه سويد والملازم الأول مطيع رجوب أثناء التحقيق الفوري.
7- بإفادة الشاهدين الرائد نزيه سويد والملازم الأول مطيع رجوب أمام المحكمة والتي جاءت مؤيدة لأقوالهما أثناء التحقيق الفوري.
وعملاً بالمواد (175 و 309) من قانون أصول المحاكمات الجزائية و (273 و 274) من قانون العقوبات العام و 158 من قانون العقوبات العسكري والمرسوم التشريعي رقم 6 لعام 1965 المعدل بالمرسوم التشريعي رقم 33 لعام 1965 قررت المحكمة العسكرية الاستثنائية بالإجماع مايلي:
1- تجريم المتهم المقدم عبد المعين بن عبد الوهاب الحاكمي، والدته كوثر، عمره 43 سنة من أهالي حمص، سوري الجنسية، متزوج ولديه أربعة أولاد، موقوف في سجن المزة بجناية التجسس المنصوص عنها بالمادة 158 من قانون العقوبات العسكري والحكم عليه بـ الإعدام.
2- تجريم المتهم فرحان بن عبد الهادي الأتاسي، والدته شهدية، عمره 37 سنة، من أهالي حمص، ومقيم في دمشق – أبو رمانة – جادة شكيب أرسلان. مهنته ممثل شركة أفلام يونايتد أرتيست، متزوج وله ولدان، سوري الجنسية، موقوف في سجن المزة بجناية التحريض على التجسس المنصوص عنها بالمادة 158من قانون العقوبات العسكري بدلالة المادتين (216 و 217) من قانون العقوبات العام والحكم عليه بـ الإعدام.
3- مصادرة الأموال النقدية المضبوطة بحوزة المحكوم عليهما وقيدها إيراداً لخزينة الدولة، وكذلك السيارة نوع بيجو رقم 69234 من المحكوم عليه عبد المعين الحاكمي لثبوت دفع ثمنها من الأموال التي قبضها من السفارة الأمريكية.
قراراً وجاهياً قابلاً للتصديق من قبل رئيس مجلس الرئاسة، وأفهم علناً حسب الأصول.
دمشق في 20 شباط 1965.
يذكر أن المتهمَين قد قالا أمام المحكمة إنهما تعرضا للتعذيب بالكهرباء وأن اعترافاتهما أخذت بالإكراه، وهو ما لم تلتفت إليه المحكمة.
العلاقة بالجاسوس الإسرائيلي إيلي كوهين
لطالما تم الربط بين قضية الجاسوس إيلي كوهين وقضية فرحان الأتاسي وقريبه الحاكمي لتقاربهما الزمني فقد أعلن عنهما في العام نفسه وأعدم فرحان والحاكمي وكوهين في العام نفسه بفارق أقل من ثلاثة أشهر. مع ذلك لم يكن هناك أي تأكيد على وجود دليل لهذا الترابط.
بالعودة إلى رسالة جرير الأتاسي ابن فرحان الذي عاد مع أخته ووالدته للعيش في الولايات المتحدة بعد إعدام والده، فقد شجعت رسالته آنفة الذكر أبراهام شقيق إيلي للتعرف إليه.
التقى الرجلان في نيويورك بالولايات المتحدة حيث يعمل جرير في أحد المصارف الأمريكية الكبرى (وهو بالمناسبة نفس المجال الذي يمارسه أبراهام كوهين، فقد عمل لفترة 40 عاماً في مصرف إسرائيل المركزي حيث تدرج في المناصب حتى أصبح كبير الخبراء الاقتصاديين في المصرف).
يقول أبراهام كوهين عن هذا اللقاء: “زرت جرير ووالدته في نيويورك. لقد جمعني جرير بوالدته التي كانت تبكي طوال الوقت، وأخبرتني أنهم كانوا جيران إيلي في سورية، وأن الشخصية الأساسية التي تعامل معها إيلي هي فرحان”.
عاد أبراهام إلى إسرائيل ليقرأ في الجريدة أن نادية زوجة شقيقه إيلي تلقت من أرشيف الجيش الإسرائيلي وثيقة تضم الجلسة الثانية لمحاكمة زوجها، بعد قرار السماح بنشرها. كانت الوثيقة مكتوبة بالعبرية حتى الصفحة 19. يقول أبراهام كوهين: عندما عدت إلى الأرشيف وجدت الصفحة رقم 20 بين الوثائق، وكانت بلا عنوان ومعزولة بين وثائق مختلفة لا تتعلق بها. لاحقاً اكتشفت أن هذه الصفحة تنهي محضر الجلسة رقم 2 في محاكمة إيلي. عند ذلك اكتشفت أنه رداً على سؤال المحقق، ربط إيلي نفسه بالمقدم عبد المعين الحاكمي: “كان الجو ممطراً. صعدت إلى الحاكمي في الطابق الرابع. تحدثت إليه وأخبرته أن الأمريكيين على استعداد لدفع 50 ألف دولار“.
بعد القبض عليهما، شعر إيلي أن الخناق بدأ يشتد حول عنقه.
أعدم فرحان الأتاسي شنقاً في ساحة المرجة بدمشق صبيحة 23 شباط 1965، بينما أعدم المقدم عبد المعين الحاكمي رمياً بالرصاص بسبب انتمائه العسكري. بعد أقل من ثلاثة أشهر في 18 أيار 1965 أعدم الجاسوس الإسرائيلي إيلي كوهين.
اقرأ أيضاً
أقرأ أيضاً
اقرأ أيضاً