قطوف من الكتب

خالد العظم ناقداً موسيقياً

خالد العظم ناقداً موسيقياً
لا يقتصر الرئيس خالد العظم في مذكراته على سرد يومياته وخصوماته السياسية وأخبار التنافس بين رجال السياسة وقادة الجيش. كما لا يكتفي بالخوض في تحليل حوادث التاريخ وتفسير اتجاهاتها، بل يتعدّى ذلك كله إلى الغوص في مختلف مظاهر الحياة الاجتماعية والثقافية والدينية وتبدل أذواق الناس وتغيّر طبائعهم. ولذلك تعد مذكراته -سواء اختلفنا أو اتفقنا معه- من أهم ما نشر من مذكرات رجال الدولة في سورية.

خالد العظم ونظرات في الغناء والموسيقى

على عادة خالد العظم في الاستطراد خلال سرد ذكرياته، فقد عرّج من حديثه عن حياته الجامعية في معهد الحقوق بدمشق، واستعانة زملائه بترديد بعض الأغاني أثناء الدراسة، إلى الكلام عن ألوان الغناء وأصناف المطربين ومذاهب الملحنين والمفاضلة بينهم.

رأيي في الموسيقى العربية والأغاني الشائعة

يقول خالد العظم:
“كانت الأغاني الرائجة هي تلك التي وضعها سيد درويش. وتلك الأغاني السخيفة في أقوالها، الركيكة في موسيقاها، كانت على النمط الآتي:
يابو الكشاكش إيه جرى
ياهل ترى
دقنك شابت بالمسخرة
وأمور الفشخرة

ويفخر المصريون بأن بلادهم أنجبت سيد درويش الذي قلب الموسيقى العربية والأغاني الشائعة رأساً على عقب، وكانت له فتوحات وغزوات في عالم الموسيقى الحاضرة. وأنا لا أفهم مطلقاً كيف أن أغنية كالتي ذكرتها يمكن أن يفخر بها موسيقيو العصر الحديث. والحقيقة أن سيد درويش ضرب الموسيقى العربية الرائجة حتى لم يَبق لها أثر. فجاء في أعقابه من شيدوا الموسيقى العصرية على قواعد فنية تطرب في ألحانها ومعانيها. وفي مقدمة هؤلاء الأستاذ محمد عبد الوهاب والسنباطي في النغم، ومحمود طه وأحمد رامي في صياغة الكلمات. وذلك بالإضافة الى القصائد الغرّاء التي وضعها الأستاذ أحمد شوقي ولُحّنت لأم كلثوم، فزادتها بعذوبة صوتها ورخامته رقة وتأثيراً على المستمعين.

الطرب والغناء بين الأمس واليوم

وبعد الفترة القصيرة نسبياً التي تصدّر فيها عبد الوهاب وأم كلثوم عرش الغناء، أي بين 1925 و 1945، جاءتنا قافلة جديدة من الملحنين الجدد والمغنين الذين اكتسبوا عن غير استحقاق شهرةً لا يستحقها فنّهم، أمثال فريد الأطرش وعبد الحليم حافظ ومحرّم فؤاد.

وقد تعلّق عامة الشعب بهذه الأغاني، لا لأنها تعبّر عن روح موسيقية رفيعة؛ بل لأن في مقدور أيٍّ من الناس أن يفتح فمه ويتلفظ كلمات أغاني عبد الحليم حافظ، مثلاً، مع شيء بسيط من النغم، ليُشبَّه إليه أنه من سويته وعبقريته. ناهيك بالدعاية الواسعة التي ترافق مطربينا الجدد في الصحف والإذاعة والتلفزيون، والوله والإعجاب حتى العبادة، تظهرهما فتياتنا الكواعب نحو المغني الشاب، أو يظهرهما شبابنا الصاعد نحو المغنية الفتية، لا سيما إذا كان الله حبا أولئك المطربين والمطربات بمسحة من الجمال العصري والجاذبية الجنسية.
ومن يقلّب صفحات الكتيبات المطبوعة المنتشرة الآن، والحاوية كلمات الأغنيات العصرية، لا يجد فرقاً بينها وبين أغاني ما قبل الحرب العالمية الأولى، مثل “عصفوري يمّا” أو “ع الروزنة”.


سيد درويش

“ضرب سيد درويش الموسيقى العربية الرائجة حتى لم يَبق لها أثر.”

— خالد العظم

تبدّل الأذواق

وأعود فأذكر أن الموسيقى والغناء العربيين، بعد أن تخلّصا من السخافات التي كانت شائعة حتى عام 1925، عادا اليوم إلى ما يدانيها. ولم تكن فترة العشرين سنة ( 1925-1945) إلا كصحوة الموت. ثم لم يلبث الذوق العام أن عاد إلى سباته ورقدته. ولم تستطع النوادي الموسيقية في مصر، على الرغم من إمكانياتها الواسعة، الوقوف تجاه التيار الجارف. وذلك تماماً كما حصل في تقهقر الموسيقى الكلاسيكية وقلة الإنتاج التي تشكو منها تجاه موسيقى الجاز الصاخبة.
على أن هذه الأخيرة، لو لم تكن مستندة إلى الرقص الذي يستجلب وحده الشبان والشابات، لما كان ليكتب لها النجاح والاستمرار.

عصر السرعة والإيجاز

وأظن أن سبب هذا الشيوع والبقاء هو في طباع الجيل الحاضر الذي لم يعد يعجبه كل ما هو بطيء. فلا ركوب الخيل أو السير على الأقدام يستهويانه‏ بقدر النشوة التي يشعر بها وراء مقود السيارة التي تسابق الريح، أو في ركوب الطائرة التي توصله في ساعة واحدة إلى بلده. والأكل لم يعد يلذ إلا خلف موائد السناك بار. واستبدلت الخيل والبغال والحمير التي كان يستعملها الفلاحون بدراجات نارية أو عادية. فالسرعة والإيجاز هما من مقومات الحياة العصرية. فلا يصح استغراب عزوف الشباب عن الأدوار القديمة أو مقطوعات أم كلثوم التي تستغرق ساعة وربع الساعة على الأقل. فهم بحاجة الى الغناء، فيجدون في الأغنية العصرية كلمات سهلة الحفظ، ولا يشعرون بأي عناء في أداء اللحن. ثم إنها تنتهي بسرعة.


“جاءت أم كلثوم فانحسرت أسماء كل مطرب أمامها وانزوت.”

— خالد العظم

فيروز وسميرة توفيق

تضمن اللهجة العامية واللحن البسيط والسرعة للأغاني العصرية نجاحاً كاملاً في الأوساط الشعبية ومحيط الشباب الذي نشأ في عصر تسوده هذه الموسيقى. لا سيما أن كثيراً منها مقتبس من الأغاني الإفرنجية، أو هو بنفس الايقاع الذي تتميز به الموسيقى الراقصة. حتى أن أغاني أم كلثوم الشيقة لا تبعث في الشباب سوى الملل والازدراء، بعكس فيروز التي لا ننكر حلاوة صوتها ومقدرتها على أداء الأغاني التي يلحّنها لها الرحباني. وهي مزيج من أغاني محمد عبد الوهاب القديمة وأغاني الفولكلور اللبناني.

أما سميرة توفيق، ذات الوجه الحلو، فمع قلة التنويع في أغانيها، فهي تلاقي استحسان الجمهور من المسنين والشباب لجمالها أكثر من فنها الموسيقي. وأذكر بهذه المناسبة أن ضابطين من أصحاب المقام الرفيع تزاحما على هذه المغنية، فسمح لها أحدهما بدخول سورية لإحياء حفلة في فندق بلودان. لكن الثاني أصدر أمره بمنعها. وكادت تحصل مشاجرة بينهما، إلا أن أصدقاء الطرفين تدخلوا في الأمر فسوّي، ودخلت المغنية إلى سورية. لكن الجفاء والحقد بقيا في قلب الضابطين حتى تمكن أحدهما من إزاحة الآخر عن منصبه.‏


“تلاقي سميرة توفيق استحسان الجمهور من المسنين والشباب لجمالها أكثر من فنها الموسيقي.”

— خالد العظم

أسمهان

ومن بين المطربات ذوات الصوت الرخيم والوجه البسيم، نستطيع أن نذكر المرحومة أسمهان التي لمع اسمها خلال الحرب العالمية الثانية كعميلة إنكليزية، وكمطربة وممثلة سينما. ولكنها انطفأت فجأة بحادث سيارة قيل إنه كان مفتعلاً. وعلى أي حال، فإني على يقين من أنها كانت ستحتل مركزاً مرموقاً في الغناء، لو أمدّ الله بحياتها، رحمها الله.

المغنون القدامى

أما المغنون القدامى الذين استمعت إلى صوتهم، فمنهم الشيخ سلامة حجاري. وقد حضرت في صيف 1913‏ إحدى الروايات التي قام بتمثيلها مع جورج أبيض في مدينة زحلة. وما يزال صوته يتردد في أذني؛ لا لأنه أعجبني، لكن لنوع من الغناء اختص به واشتهر، في عهد كان المستمعون يطربون فيه لرجفة الصوت المنتحلة، ويعتبرونها قمة الفن.

وكذلك استمعت إلى أبي العلاء (يقصد أبا العلا محمد)‏ وهو يغني مع أم كلثوم في 1926، وإلى جانبهما عدد من المرددين دون أن ترافقهما أية آلة موسيقية .
وكان الشيخ سعيد الصفطي يغني الأدوار القديمة فيثير حماس الجمهور بشكل لا يقل عن حماس جماهير اليوم لعبد الحليم حافظ مثلاً.‏

ومنيرة المهدية وفتحية أحمد من المطربات اللاتي تبوأن عرش الشهرة حتى 1925. ثم جاءت أم كلثوم مباشرة فانحسرت أسماء كل مطرب أمامها وانزوت.‏
وفي 1919 جاء دمشق جورج أبيض وفرقته. فكان فيها من غنّى مونولوجات بدأت بالانتشار منذ ذلك العهد، منها “أنا رأيت نفسي ببستان”.‏


“أسمهان عميلة إنكليزية، ومطربة وممثلة سينما. وإني على يقين من أنها كانت ستحتل مركزاً مرموقاً في الغناء، لو أمدّ الله بحياتها.”

— خالد العظم

محمد عبد الوهاب

ثم بزغ نجم محمد عبد الوهاب في مصر، بفضل أحمد شوقي الشاعر الشهير، وراح اسمه يذكر على كل لسان. وأذكر أن أول مرة سمعته فيها كانت في 1929 على مسرح العباسية. كان صوته رفيعاً كجسمه النحيل. وهو، والحق يقال، ذو عبقرية موسيقية واسعة، رغم أن أكثر أغانيه كانت مقطوفة من زهور الموسيقى الإفرنجية. إلا أنه كان يقتبس تلك الألحان الإفرنجية ويمزجها باللحن الشرقي، فيكسب هذا اللحن عذوبة من جراء ابتعاده عن الترديد على وتيرة واحدة. وأعتقد أن عبد الوهاب هو أعظم موسيقيّ شرقي في العصر الحاضر، كما كان أحمد شوقي أكبر شاعر معاصر.

فريد الأطرش

وتبع عبد الوهاب في الشهرة فريد الأطرش. وهو سوري من جبل الدروز، وشقيق أسمهان. وكانت أول أغنية اندفع بها إلى الأمام “يا ريتني طير”. ثم تابع طريقه كملحن ومِغنٍّ ونجم سينمائي. وأكثر عشاق صوته من الفتيات.


“عبد الوهاب هو أعظم موسيقيّ شرقي في العصر الحاضر، كما كان أحمد شوقي أكبر شاعر معاصر.”

— خالد العظم

تعلّم الموسيقى والمقامات

كان لوالدي صديق اسمه مصطفى بك سليمان ظل محافظاً على وداده. فيأتي كل مساء لنسهر معه وبعض الأصدقاء، كالأستاذ المرحوم حسن التغلبي، وفؤاد المحاسني، ومنير العيطة، وكامل الياسيني. وكان مصطفى بك ماهراً بالعزف على العود، وهو الذي درّبني على ما أعرفه من الموسيقى الشرقية وألحانها. فصرت إذا سمعت لحناً أعرف فوراً إذا كان من مقام البيات أو الرصد أو السيكاه. وكم ليلة كنّا نذهب أنا وإياه إلى دمّر وحدنا، فيمس بعوده ويسترسل في العزف حتى بزوغ النهار، وأنا ممدد على مقعد أماه أستمع إليه وأغفو في بعض الأحيان.

اقرأ أيضاً

شاهد أيضاً

زر الذهاب إلى الأعلى