حادثة مقتل مجيب بن سلمان المرشد على لسان قاتله

النقيب عبد الحق شحادة قائد الشرطة العسكرية يروي تفاصيل مقتل مجيب بن سلمان المرشد نهاية عام 1952.
وردت هذه الشهادة في كتاب (الحقيقة المغيبة) لبسام برازي وسعد فنصة نقلاً عن مذكرات عبد الحق شحادة المخطوطة (ذكريات ضابط سوري).
مقتل مجيب المرشد في شهادة عبد الحق شحادة
كتب العقيد عبد الحق شحادة، قائد الشرطة العسكرية، عن الظروف التي دفعته لإطلاق الرصاص على نجل سلمان المرشد الذي تسلم الدعوة بعد إعدام أبيه عام 1946، في مخطوطة كتابه:
“كانت تردني أخبار بأن مجيب المرشد أصبح رباً وريثاً لوالده عن طريق حلول الروح أو التقمص أو التناسخ .. وأنه قد أصبح له رسل وأنبياء، وأن القيامة ستقوم قريباً، ليبيع المؤمنون ما عندهم من أراض وحيوانات بأبخس الأثمان، فيشتريها بواسطة أنبيائه ورسله، وأنه كان يدهن نفسه بالفوسفور فيظهر مضيئاً بالليل ليخرج على الناس بنوره الرباني فيذهلهم. وكنت أقول لنفسي: هذا هو الظلم الأكبر، والجهل الأكبر، والذل الأكبر، فكيف يقع كل هذا في عهدنا؟ وكبر عليّ أن يقع في سورية مثل ذلك، وفي هذا العصر عصر العلوم بدلاً من عصور الخرافات. لذلك قررت أن أكتشف بنفسي صحة هذه الأخبار.
انتهزت فرصة وجودي في اللاذقية بمناسبة احتفالات خطابية حضرها أديب الشيشكلي. ولما انفضت الاحتفالات لم أعد مع الشيشكلي في طائرته بحجة قيامي بجولة في الجبل لاختيار عناصر جديدة للشرطة العسكرية. ولما علم عبد الكريم يحي بنيتي الصعود إلى الجبل ألحّ على مرافقتي دون أن يعرف نيتي الحقيقية. ركبنا سيارة الجيب، أنا وسائقي ومرافقي وعبد الكريم يحي، وصعدنا الجبل نحو قرية “جوبة برغال”، عاصمة المرشديين، وكان الطريق وعراً ومتصاعداً، والسيارة تسير فوقه بصعوبة.
في “جوبة برغال” سألت عن مجيب، فقيل لي إنه في “شطحة”، في السفح الآخر من الجبل المؤدي إلى نهر العاصي. فسِرت باتجاهه، وكانت الاتصالات التلفونية معدومة، إلا في بعض المخافر المتباعدة. لذا أخذت معي اثنين من الدرك من أحد المخافر کأدلّاء. وفي الطريق علمت أن الدرك يخافون من بطش مجيب المرشد إذا عارضوه.
واصلت السير في الطريق الموحش الوعر نزولاً في الوادي حتى وصلت إلى مخفر قريب جداً من قرية “شطحة”. استرحت قليلاً، واستأنفت السير نحو قرية “شطحة”. وهناك من على بعد نصف كيلومتر تقريباً، شاهدت جمعاً من الناس، يقدر عددهم يمئتي شخص تقريباً جالسين على الأرض حول دكة كان يجلس عليها رجل ضخم بلباس أبیض. شعرت بأن هذا هو “مجيب المرشد”. تركت السيارة على بعد خمسين متراً تقريباً من هذا الجمع، و اتجهت نحوه بلباسي الرسمي، حتى وصلت إلى مسافة متر واحد تقريباً من الرجل الجالس فوق الدكة. سألته على نحو فجائي، وعلى مسمع من الجمع :
– من أنت ؟
أجابني: من أنت؟
قلت له: أنا الرئيس ( النقيب) عبد الحق شحادة.
أجاب: نحن هنا لا نعترف بأحد.
فما كان مني إلا أن صفعته صفعة قوية على وجهه.
المهم أن رده على الصفعة كان ذهولاً وجموداً وسكوناً مطبقاً. ولكن ما إن ابتعدت حتى نهض مجيب، فنهض الجميع معه واتجهوا نحوي مهاجمين. في هذه اللحظة سارع سائق سيارتي وقدّم لي الرشاش الخاص بي. وما إن استلمته حتى باشرت بإطلاق النيران بكثافة نحو أعلى الرؤوس ثم نحو الأرض، ثم صرخت بأعلى صوتي فيهم أن يتوقفوا. توقفوا جامدين. أشرت إلى مجيب المرشد بأن يتقدم نحوي وأنا أشهر السلاح في وجهه. ولما تقدم صحتُ به: اجلس. ضع رأسك على الأرض. فسجد على الأرض. وهنا أخذت بالتراجع إلى الخلف بضع خطوات نحو سيارتي.
وما كدت أخطو إلى الخلف حتى رفع رأسه صارخاً بالناس أن يهجموا. وعندئذ أفرغت نار الرشاش في جسمه، فابتعد الناس عني قليلاً… وأنا أرجع لأركب السيارة عائداً إلى المخفر القريب.
وصلنا المخفر، وكنت مرهقاً من الطريق والعملية. تداولنا فيما يجب أن نفعله فقررنا تنظيم الدفاع عن المخفر حتى الموت ونفاذ الذخيرة، وهو القرار البديل عن ترك المخفر والهرب، لأن هذا السلوك قد يشجعهم على مطاردتنا. الأمر الأول الذي قررناه هو أن نبث العيون والآذان لتخطرنا بما قد يُبيّت لنا. وأما الأمر الثاني فهو إخبار الشيشكلي بما حصل معي. قيل لي إن هاتفاً موجوداً في المخفر الذي يلي مخفرنا وفي السفح الأعلى. فتطوع الأخ عبد الكريم يحي، وركب حماراً وصعد إلى الجبل الذي يلي مخفرنا، واتصل من هناك بمحافظ اللاذقية حمدي الصالح، فأخبره بالحادث. وهذا بدوره اتصل بالشيشكلي. قيل له إنه مدعو إلى إحدى السفارات لاحتفال ما، فاتصل بالسفارة وأخبره، ففوجئ بالخبر، وأمر بإرسال سريتين من اللاذقية لنجدتي، فوصلتا بعد أقل من 24 ساعة.
بعد مغادرة عبد الكريم يحي، رحت في نوم عميق،. وبعد حين أيقظني أحدهم متعجلاً، وقال لي إن أسرة آل المرشد كلها قد حضرت لتعتذر عن أفعال المرشد، وتسترحم بأن لا نعاقب الناس على ما فعله مجيب المرشد. وفعلاً استمعت إلى اعتذارهم واسترحامهم وصرفتهم جميعاً بكل إحسان واحترام. (عرفت، فيما بعد، أن المرشديين ناقشوا الأمر فيما بينهم، وقرروا أنه لولا أن هناك قوة كبيرة من الجيش مختبئة ومستعدة للتدخل لمساعدة هذا الضابط، لما تجرأ على أن يقوم وحده بما قام به، ففضلوا عدم الرد.
عدت مع السريّتين إلى دمشق وقابلت الشيشكلي، وكان غاضباً. قلت له: “دافعت عن نفسي… ولو لم أفعل لكنت أنا الضحية. وكيف لا أدافع عن نفسي إزاء رجل يزعم أنه يحيي ويميت؟..” ثم طلبتُ التحقيق وتقديمي للمحاكمة. وفعلاً تكوّن ملف التحقيق، ولكن لم يُحَل إلى المحاكمة. ثم قام الانقلاب ضدّنا وخرجنا من سورية، إلى أن أعيد التحقيق، وحوكمت غيابياً، وحُكمت بالإعدام سنة 1955. وبلغني ذلك وأنا في باريس. وأذكر في حينه أنه من الناس من هنّأني وأعجب بي، وكان عددهم لا يحصى..”.
(انتهت شهادة عبد الحق شحادة)
مقتل مجيب المرشد في وثائق الخارجية الأمريكية
جاء في إحدى وثائق الخارجية الأمريكية ما يلي: “قُتل مجيب المرشد، وهو زعيم علوي شاب في قرية قرب اللاذقية، يوم 29 تشرين الثاني (نوفمبر) 1952 على يد أحد ضباط الشرطة العسكرية من دمشق. نقلت الصحافة الحادثة على أنها شجار بين مجموعتين علويتين“.
وتضيف الوثيقة: “بأن مصادرها تؤكد بأنه على الرغم من تكليف الشيشكلي للنقيب في الشرطة العسكرية بتقصي الحقائق باعتبار هذه المجموعة قوة منظمة تحكم نفسها بنفسها تقدر بعشرة آلاف شخص كانت تقوم بجمع الأسلحة، إلا أنه بحسب مصادر السفارة في الحزب السوري القومي الذي كان مجيب المرشد منتمياً إليه، فإن العقيد الشيشكلي لم يأمر بقتل المرشد“.
وثائق الخارجية الأمريكية (سرّي) من السفارة بدمشق إلى وزارة الخارجية – واسنطن، بتاريخ 12 كانون الأول (ديسمبر) 1952-رقم الإرسالية 353.
اقرأ أيضاً