الانقلاب على الشيشكلي وأوهام عودة الحياة الدستورية
يصر خصوم الرئيس أديب الشيشكلي -منذ الانقلاب عليه إلى اليوم- على أن الانقلاب عليه كان بهدف إعادة ما يسمونه “الحياة الدستورية” التي كانت – برأيهم- سارية في عهد الرئيس المستقيل هاشم الأتاسي. وعادت بعد الانقلاب على الشيشكلي وإعادة الأتاسي من بيته في حمص إلى كرسيه في القصر الرئاسي في دمشق.
ولكن هل عادت “الحياة الدستورية” حقاً إلى سورية بعد استقالة الشيشكلي؟
وهل كانت الحياة السياسية في عهد الأتاسي قبل الانقلاب في الأصل دستورية بحسب وصف وشروط المنقلبين على الشيشكلي أنفسهم؟
الفقيه الدستوري أسعد الكوراني يجيب
يبين الفقيه الدستوري ووزير العدل السوري أسعد الكوراني – والذي كان بالمناسبة من خصوم الشيشكلي وشارك وزيراً للعدل في ثاني حكومة بعد الانقلاب عليه- تهافت أوهام تلك “الحياة الدستورية” المدعاة. كما يؤكد الكوراني أن الحياة السياسية في سورية كانت قبل وأثناء وبعد حكم الشيشكلي حياة غير دستورية. وأنها كانت سلطة أمر واقع خضع لها وقبل بها هاشم الأتاسي نفسه. وذلك ابتداء بقبول الأتاسي برئاسة الوزراء بعد انقلاب سامي الحناوي. ثم قبوله بتنصيبه رئيساً للجمهورية منتخباً من جمعية تأسيسية انتقالية رقّت نفسها بنفسها إلى مجلس نيابي. مروراً بقبوله بانقلاب الشيشكلي الأول الذي أبقاه في منصبه. وليس انتهاء بعودته إلى منصبه بانقلاب عسكري بقيادة ابن أخيه فيصل الأتاسي ومشاركة عدد من أقاربه من عائلة الأتاسي.
ولعل الرئيس هاشم الأتاسي بهذه الوقائع يكون الرئيس الوحيد في التاريخ الذي جاء به انقلاب أول، وتعايش مع انقلاب ثانٍ، واستفزه للاستقالة انقلاب ثالث، وأعاده لمنصبه انقلاب رابع، وكل هذا تحت عنوان: “الحياة الدستورية”.
يروي أسعد الكوراني في كتابه (ذكريات وخواطر) تفاصيل جلسة صاخبة في مجلس النواب بُعيد الانقلاب على الشيشكلي ومنح الثقة لأول وزارة في العهد الجديد. ويسرد تفاصيل أقل ما يقال فيها إنها مخجلة وتعبر عن ازدواجية في المعايير ونفاق سياسي وادعاء كاذب للمبادئ والمثاليات.
يقول الكوراني:
“في جلسة 5 أيار/مايو 1954 سأل نواب كثيرون الحكومة عما إذا كانت أقامت الدعوى على مغتصبي السلطة وأعوانهم من الوزراء والضباط والنواب ومن سماهم بوظائفهم. وكانت أسئلة النواب عنيفة جداً. ولم يكن رئيس الوزراء صبري العسلي حاضراً. وكان بالإمكان تأجيل الإجابة إلى جلسة قادمة.
جواب وزير العدل
ولكن الأستاذ عزت صقال وزير العدل انبرى للجواب فاشتعل الجو غاضباً من الحكومة. حتى أن أحد النواب طلب إعادة النظر في الثقة. لأن الحكومة في بيانها كانت وعدت بالثواب والعقاب.
كان جواب الأستاذ صقال مركزاً بدقة، وكأنه مهيّأ من قبل. مع أنه قد ارتجله آنياً في جلسة لم يكن فيها هذا الموضوع مقرراً له أن يطرح على البحث.
حدد الأستاذ صقال الموضوع كما طرحه النواب كما يلي:
1- عدم قيام الحكومة بإحالة الزعيم سلو والعقيد الشيشكلي على القضاء بجرم الانقلاب واغتصاب السلطة.
2- عدم إحالتها الوزراء والنواب السابقين على القضاء وقد تعاونوا مع العهد السابق ومكنوا صاحبيه الزعيم سلو والعقيد الشيشكلي من الاستمرار في الحكم.
3- وكذلك جميع الموظفين الذين تعدوا على الأموال والأشخاص.
ثم أجاب على ذلك:
1- بأن وزير الدفاع سيقيم الدعوى حسب اختصاصه على الزعيم سلو والعقيد الشيشكلي بتهمة جرم الانقلاب الذي قاما به أمام القضاء العسكري.
2- أما الدعوى على المدنيين من الوزراء والنواب السابقين فإقامتها من اختصاصه. ولكنه لم يقمها لأنه لم يجد في نصوص قانون العقوبات ما يمكنه من إقامتها.
ولما اضطرب المجلس من هذا الجواب وتكلم كثيرون بعنف مهاجمين الحكومة رأى أحد النواب تخصيص جلسة لهذا الموضوع. وتكلم رئيس المجلس الدكتور ناظم القدسي قائلاً: بصفتي رئيساً لهذا المجلس أود أن أقول بأن موضوع المحافظة على الدستور وعلى ما جرى عليه من اعتداء يجب أن يحسم حسماً فاصلاً. إذ لا يمكن أن يؤجل بصورة تدعو إلى الجدل والمناقشة. لأن الرأي العام يريد أن يعرف كيف يعاقب الذين يعتدون على دستور البلاد وحريتها. إلخ.
وقد رأى المجلس تخصيص جلسة البحث في هذا الموضوع يوم السبت. وكان المجلس منعقداً يوم الأربعاء، بعد أن رفض التأجيل إلى الإثنين رغبة في الإسراع في البحث.
السجال العنيف ينقلب سكوتاً مطبقاً
“ولكن أعجب ما في الأمر أن المجلس بعد تلك الحماسة الشديدة سكت عن اغتصاب السلطة والاعتداء على الدستور سكوتاً مطلقاً.
على أني، وأنا أتابع تلك المناقشة الحادة، وقفت على مسألتين سبق لي ذكرهما:
إحداهما أن اغتصاب السلطة لم يقع في 29 تشرين الثاني (نوفمبر) 1951 كما قال الأستاذ أحمد قنبر في الرد على الأستاذ صقال. إنما وقع في الحقيقة في شهر كانون الأول (ديسمبر) 1949 يوم أصدر أديب الشيشكلي بلاغاً أذاعه في الراديو بعد أن انتزعه من الحكومة وسيطر عليه، متهماً اللواء سامي الحناوي بالعمل مع العراق. معلناً أنه قد اعتقله.
وكان هذا المجلس الذي ثار على بيان وزير العدل منعقداً يومئذ بصفة جمعية تأسيسية يرأسها رشدي الكيخيا، فسكت واستمر على بيان وضع الدستور، بعد أن آلت سلطة الحكم فعلاً إلى العقيد أديب الشيشكلي وأعوانه من العسكريين والمدنيين، حتى أن أكرم الحوراني قد دعم هذا الفعل، على ما سبق لنا ذكره تفصيلاً، وأخذ زعماء الحزب الوطني يتقربون من الشيشكلي لعله يتعاون معهم، على ما رأيت في الحفلات التي أقيمت له ولفوزي سلو في حلب.
وأما ما وقع في 29 تشرين الثاني (نوفمبر) 1951 فلم يكن إلا تنفيذاً حاسماً لما وقع في كانون الأول (ديسمبر)1949.
أما المسألة الأخرى فهي أن حسني الزعيم نفسه قام بعمل غير مشروع بالاستيلاء على السلطة وإلغاء الدستور والعمل على وضع دستور جديد. فلما قام الحناوي وأعوانه بانقلابهم عليه كان المفروض إعادة الحكم السابق بدستوره ورئيسه وزرائه. ولكن الذين دعاهم الحناوي وأعوانه من كبار الساسة المدنيين قبلوا باستمرار انقلاب الزعيم. ورضي رئيس كهاشم الأتاسي أن يقبل رئاسة الوزارة من الحناوي بمرسوم منه بوصفه قائداً عاماً للجيش والقوات المسلحة. واشترك في وزارته أقطاب من حزب الشعب وحزب البعث الاشتراكي والمستقلين كرشدي الكيخيا وناظم القدسي وفيضي الأتاسي وأكرم الحوراني وميشيل عفلق وخالد العظم وعادل العظمة وفتح الله أسيون”.
صدقوا الكذبة ثم تجاهلوها
ولهذا فإن الوزير أسعد الكوراني يرى أن ما جرى بعد الانقلاب على الشيشكلي هو استمرار لعهد غير دستوري. فقد بدأ ذلك العهد بانقلاب حسني الزعيم على الرئيس شكري القوتلي. وأنه كان أحرى بمن تعاونوا مع سامي الحناوي أن يعملوا على عودة الرئيس الشرعي شكري القوتلي ومجلس نوابه الذي حله انقلاب الزعيم ونفاذ الدستور الذي ألغاه.
ولا أدل على ذلك من أن من دعا بحماس إلى محاسبة أركان عهد الشيشكلي عاد وسكت ونسي أمر المحاسبة لما علم أن المحاسبة ستشمله قبل غيره لمشاركته في الجرم نفسه.
اقرأ أيضاً
بعد تآمره للانقلاب عليه وقتله، الشيشكلي يفرج عن عدنان المالكي بشفاعة رام حمداني